ظهرت على الإعلام في الآونة الأخيرة، ظاهرة ظننّا أنها انتهت إلى غير رجعة، إذ إنَّ المجتمعات الإنسانيَّة أصبحت من التطوّر بما لا يسمح بالعودة إلى هذه الظّاهرة، عنيت بذلك سبي النِّساء في الحروب. والخطير في الأمر، أن يتمّ هذا الأمر باسم الإسلام، وتحت راية "لا إله إلا الله، محمَّد رسول الله"، ما يعطي إيحاءً بأنَّ سبي النّساء هو جزء من ثقافة الإسلام وتشريعه.
سوف نحاول في هذه المقالة تبيان حقيقة موقف الإسلام من هذه الظّاهرة، وما إذا كانت المجتمعات الإنسانيَّة تتقبّلها. وإذا كان سبي النّساء في مرحلة تاريخيّة من حياة البشريّة، وفي الإسلام، قد حصل، فهل يعني هذا أنّ سبيهنّ ما زال مشروعاً، والسبي يطلق على خصوص الأسرى من النساء؟
هل شرَّع القرآن السّبي؟!
لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ القرآن الكريم لم يشرّع سبي النّساء في حال الحرب، ولم ترد آية قرآنيّة تسمح لرسول الله(ص) أو للمسلمين بسبي النّساء، حتى لو تواجدن في أرض المعركة، مع أنَّ القرآن حافلٌ بالآيات التي تبيّن للمسلمين طريقة تصرّفهم في أرض المعركة مع الأعداء، فقد سمح الله تعالى للمسلمين بقتال المشركين، كما جاء في قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}[التوبة: 5]، وقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ}[التوبة: 12]، وغيرهما من الآيات. إلا أنَّ الآيات لا تتحدّث عن سبي النّساء، ما يعني أنّ سبيهنّ ليس حالة شرعيّة ثابتة، بل هو حالة تخضع للظروف التاريخيّة الّتي قد تسمح بمرحلةٍ ما بالقيام بهذا الفعل، وقد لا تسمح به في مرحلة أخرى.
نعم، لقد قسَّم القرآن الكريم الحالات الّتي يجوز فيها للرّجل معاشرة المرأة من النّاحية الجنسيّة، إلى حالتين: الحالة الأولى هي حالة الزّواج بقسميه الدَّائم والمؤقَّت (زواج المتعة)، والحالة الثّانية هي ملك اليمين، وملك اليمين يعني المرأة الّتي أخذت سبيّةً في حال الحرب..
وقد ورد تحليل معاشرتها جنسيّاً في موارد من القرآن الكريم، ففي الآية 23 من سورة النّساء، يقول الله تعالى، في مورد تعداد النّساء اللّواتي يحرم على الرّجل معاشرتهنّ جنسيّاً، وهنَّ من يسمَّين "المحارم": {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ...} إلى آخر الآية، ثمَّ يقول تعالى في الآية الّتي بعدها: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ...}[النِّساء: 23-24].
فالمرأة المملوكة، والّتي كان يُطلَق عليها اسم "الأمَة"، هي في عداد النّساء اللّواتي يحلّ للرّجل معاشرتهنّ جنسيّاً.
وفي الآية 25 من السورة نفسها، يقول الله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}، والمراد بالمحصنات في هذه الآية، "العفيفات" وليس المتزوّجات.
فالله سبحانه يقول إنَّ من لا يستطع الزَّواج الدّائم، فلا مانع من أن يستمتع بالفتاة أو المرأة الّتي كان قد ملكها بعنوان سبيَّة. والآيات حول هذا الموضوع عديدة، أكتفي منها بهذين النَّموذجين.
فهل يعتبر ما ورد في هذه الآيات تشريعاً صريحاً بسبي النّساء؟
لا يمكن اعتباره هكذا، بل هو تشريعٌ على نحو النَّتيجة، بمعنى أنّه ما دام الواقع الإنسانيّ في ذلك الزّمان يسمح بالاستيلاء على المرأة بعنوان "السبي"، وأنّ من يأخذها تصبح ملكاً له، ويصحّ للمالك التصرّف بملكه بأنحاء التصرّف الطبيعيّة، بالاستفادة من خدمتها مثلاً، فإنّه يصحّ له الاستمتاع بها.
ويمكن توضيح الصّورة أكثر من خلال ما ورد في سيرة الرّسول(ص)، وهو ما سنذكره في العنوان التالي.
موقف الرّسول(ص) من السَّبي
لم يقم رسول الله(ص) في كلّ حروبه بسبي النّساء، ففي معركة بدر مثلاً، كان هو المنتصر، وكانت النّساء متواجدات في هذه المعركة، ومع ذلك، عندما انتهت المعركة بهزيمة المشركين، لم تتحدّث الروايات التاريخيّة أنّ رسول الله(ص) قام بالاستيلاء على النّساء اللّواتي تواجدن في أرض المعركة، بل الملاحظ أنّ وصيّته الدائمة لجيشه وجنوده المسلمين كانت: "ولا تتبعوا امرأةً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تقلعوا شجرة..."، وهو واضح في النّهي عن أخذ النّساء أسارى وسبيهنّ.
والحالة الوحيدة الّتي حصل فيها سبيٌ للنّساء كانت حالة بني قريظة، وهي حالة استثنائيّة، سببها أنَّ بني قريظة استسلموا للمسلمين، وقبلوا بتحكيم سعد بن معاذ فيهم، فحكم بقتل الرّجال وسبي النّساء. فقد كان ذلك "أقرب إلى المستسلمين بشرطٍ منهم إلى الأسرى، لأنَّ الأسر لا يتحقَّق إلا بالغلبة والإكراه"، بينما هم استسلموا وقبلوا بتحكيم سعد بن معاذ...[محمد حسين فضل الله، كتاب الجهاد، ص:311 بتصرّف].
وكانت صفيّة بنت حيي بن أخطب من بين السبايا، ومع ذلك، لم يأخذها النبيّ(ص) بعنوان سبيّة، بل أعتقها، بمعنى أعطاها حرّيتها ولم يسترقّها، بل اتخذها زوجةً له.
وعندما دخل(ص) مكّة فاتحاً، كان كلّ ما فعله، أنّه أعطى النّاس الأمان: "من دخل داره فهو آمن"، فلم يقتل الرّجال ولم يسبِ النّساء.
نعم، الفتوحات الإسلاميَّة، وخصوصاً الّتي حصلت في زمن الخلفاء الرّاشدين الثلاثة، حفلت بسبي النّساء اللّواتي كان جيش المسلمين يأتي بهنّ، ما يعني مشروعيَّة هذا الأمر، وخصوصاً أنّ أمير المؤمنين عليّاً(ع) كان يعيش بينهم، ولم يستنكر هذا الأمر، بما أنّ عمل الخلفاء لا يكفي لتشريع حكم شرعيّ.
السّبي في القوانين الحديثة
ومهما يكن من أمر، فإنَّ المجتمع الإنساني في ذلك الوقت، كان يعتبر أنَّ استرقاق الرّجال وسبي النّساء، هو نتيجة حتميّة للحرب الّتي تدور بينهم، فالفرس والرّوم، وحتى العرب، كانوا يستولون على النّساء في حروبهم . أنا لست في مقام تبرير هذا العمل، بل في مقام بيان ظاهرة كانت موجودةً في المجتمع الإنساني، وكان تغييرها أو محاربتها لا يتمّ بشكل دفعيّ ومباشر، بل كان يحتاج إلى وقت طويل.
ولست في موقع مناقشة مشروعيّة هذا الأمر في زمن الخلفاء الرّاشدين، وإنما الحديث هو في العصر الحاضر؛ فهل إنّ ثقافة المجتمع الإنساني، في الحروب بشكل خاصّ، تسمح بالقيام بسبي النساء في أرض المعركة، أو في داخل الدّول والبلدان التي تُحتلّ من قِبَل والجيوش؟!
مع أنَّ واقع الحال يبيّن أنّ هذه الظّاهرة لم تعد موجودةً منذ توقيع اتفاقيَّة جنيف حول "أسرى الحرب"، حيث جاء في المادّة الرابعة عشرة من هذه الاتفاقيّة الخاصّة بطريقة معاملة النّساء في حال الأسر: "لأسرى الحرب حقّ في احترام أشخاصهم وشرفهم في جميع الأحوال، ويجب أن تعامل النّساء والأسيرات بكلّ الاعتبار الواجب لجنسهنّ، ويجب أن يلقين معاملةً لا تقلّ ملاءمةً عن المعاملة الّتي يلقاها الرّجال".
وفي المادَّة الثالثة عشرة توضيح أكثر لكيفيّة تعامل الدّولة الآسرة للأسير: "يجب معاملة أسرى الحرب معاملةً إنسانيّةً في جميع الأوقات، ويحظر على الدّولة الحاجزة أيّ فعل أو إهمال غير مشروع يسبّب موت أسير في عهدتها... يجب حماية أسرى الحرب في جميع الأوقات، وعلى الأخصّ ضدّ جميع أعمال العنف أو التّهديد.
والمادّة 118 من القسم الثّاني المعنون بعنوان "الإفراج عن أسرى الحرب"، تقول: "يفرج عن أسرى الحرب ويعادون إلى أوطانهم دون إبطاء بعد انتهاء الأعمال العدائيّة الفعليّة". وهناك موادّ أخرى في هذه الاتّفاقيّة لها علاقة بالحفاظ على الحقوق المدنيّة للأسير والحقوق الماليّة وعدم جواز القتل.
كلّ هذا يعني زوال مفهوم سبي النّساء، واسترقاق الرّجال أيضاً، فلم تعد المرأة ولا الرّجل يُباعان فيما كان يسمَّى "سوق النّخاسة"، ولم تعد المرأة ملكاً لمن يأسرها، ولا الرّجل كذلك، بل إنّ الأسير خاضع لهذه الاتفاقيّة، فهو ما زال مواطناً له حقوقه المدنيّة والإنسانيّة، لا تُمسّ كرامته ولا شرفه، ولا يجوز قتله أو معاملته بطريقة تقلّل من احترامه أو احترام إنسانيّته، وبعد هذا كلّه، يجب أن يعاد إلى وطنه، ولا يصحّ بحالٍ أن يبقى في بلد الأسر تحت أيّ عنوان وأيّ ظرف.