قرَّر الإسلام نظام التكافل الاجتماعي، في التشريعات القانونية الإلزامية، وفي
التخطيط الأخلاقي لشخصية الإنسان وسلوكه، وفي مفاهيمه العامّة عن الكون والحياة.
ونجد ذلك في المجال المالي، في نظام الحقوق الشرعية الواجبة والمستحبة، التي
اعتبرها حقّاً أساسياً للفئات المحرومة، لا تمثّل فكرة "الإحسان" بقدر ما تمثّل
فكرة "الحقّ"، حتى رأينا الحديث الشريف المأثور يصف الفقراء بصفة "الشركاء"، فيعتبر
الفقير شريكاً للغنيّ بمقدار الحقّ الشرعي، بكلّ ما توحيه كلمة الشَّريك من تكاليف
شرعيَّة، أو أحكام وضعيَّة، تتمثّل في اعتبار التصرف بالمال عملاً غصبياً تبطل
الصلاة معه فيما إذا كان الثوب الذي يلبسه المصلي مورداً للحقّ، وتفسد المعاملات
المتعلّقة به، ويأثـم الإنسان على كلّ تصرفاته الواقعية عليه، إلى غير ذلك من آثار
وأحكام، فقد روى الكليني في الكافي عن الإمام جعفر الصَّادق (ع): "إنَّ الله أشرك
بين الأغنياء والفقراء في الأموال، فليس لهم أن يصرفوا إلى غير شركائهم" .
ولـم يقتصر الإسلام على ذلك، بل تعدَّاه إلى مجالات أخرى، تتمثّل بقيام الإنسان
بالإنفاق والمعاونة المالية في خارج نطاق الحقوق الشرعيَّة.
فقد ورد في حديث عن أئمّة أهل البيت (ع) في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي
أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[المعارج: 24 – 25]،
"أنَّ رجلاً جاء إلى أبي عليّ بن الحسين زين العابدين (ع) (والحديث لولده الإمام
محمَّد الباقر)، فقال له: أخبرني عن قول الله عزَّ وجلّ: {وَالَّذِينَ فِي
أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}، ما هذا الحقّ
المعلوم؟ فقال له عليّ بن الحسين: الحقّ المعلوم الشيء يخرجه من ماله، ليس من
الزكاة ولا من الصَّدقة المفروضتين. قال: فإذا لـم يكن من الزكاة ولا من الصَّدقة،
فما هو؟ فقال: هو الشَّيء يخرجه الرّجل من ماله إن شاء أكثر، وإن شاء أقلّ على قدر
ما يملك، فقال له الرّجل: فما يصنع به؟ فقال: يصل به رحماً، ويقوّي به ضعيفاً،
ويحمل به كلًّا، أو يصل به أخاً في الله، أو لنائبة تنوبه" .
وجاء في حديث آخر عن الإمام جعفر الصادق (ع) في تفسير قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ
الْمَاعُونَ}[الماعون: 7] "قال: هو القرض يقرضه، والمعروف يصطنعه، ومتاع البيت
يعيره، ومنه الزكاة" .
ويتَّضح لنا دور التَّكافل الاجتماعي، في الجانب المالي وغيره، في علاقة المجتمع
المؤمن بعضه ببعض في الحديثين التَّاليين:
حديث الإمام جعفر الصَّادق لأحد أصحابه، "المعلى بن خنيس" الَّذي وجَّه إليه سؤالاً:
ما حقّ المسلم على المسلم؟ قال الصَّادق (ع): "له سبع واجبات، ما منهن حقّ إلَّا
وهو عليه واجب، إن ضيَّع شيئاً منها خرج من ولاية الله وطاعته، ولـم يكن لله فيه
نصيب. قلت له: جعلت فداك، وما هي؟ قال: يا معلَّى إنّي عليك شفيق، أخاف أن تضيّع
ولا تحفظ، وتعلم ولا تعمل. قلت: لا قوَّة إلَّا بالله. قال: أيسر حقّ منها أن تحبَّ
له ما تحبّ لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك. الحقّ الثاني أن تجتنب سخطه وتتبع
مرضاته وتطيع أمره. والحقّ الثالث أن تعينه بنفسك ومالك ولسانك ويدك ورجلك. والحقّ
الرابع أن تكون عينه ودليله ومرآته. والحقّ الخامس أن لا تشبع ويجوع، ولا تروي
ويظمأ، ولا تلبس ويعرى. والحقّ السادس أن يكون لك خادم وليس لأخيك خادم، فواجب أن
تبعث خادمك، فيغسل ثيابه، ويصنع طعامه، ويمهّد فراشه. والحقّ السابع أن تبرّ قسمه،
وتجيب دعوته، وتعود مريضه، وتشهد جنازته، وإذا علمت أنَّ له حاجة تبادره إلى قضائها،
ولا تلجئه أن يسألكها، ولكن تبادره مبادرةً، فإذا فعلت ذلك، وصلت ولايتك بولايته،
وولايته بولايتك" .
2 ـ حديث الإمام محمَّد بن عليّ الباقر (ع) (فيما رواه عنه في كتاب الكافي): "قال
أحد أصحابه: أيجيء أحدكم إلى أخيه، فيدخل يده في كيسه، فيأخذ حاجته فلا يدفعه؟ فقلت:
ما أعرف ذلك فينا، فقال الإمام الباقر (ع): فلا شيء إذاً، قلت: فالهلاك إذاً؟ فقال:
إنَّ القوم لـم يُعطوا أحلامهم بعد" .
فإنَّنا نلاحظ في هذين الحديثين، أنَّ الإسلام يتجه في تشريعه القانوني والأخلاقي
إلى أن يجعل الترابط بين المسلمين في مستوى التكامل العضوي الذي يحوِّل التكافل
الاجتماعي إلى حركة عفوية طبيعية، لا أثر فيها للتكلّف ولا للإلزام.
* من كتاب "الإسلام ومنطق القوَّة".