في تاريخنا الإسلاميّ، عشنا مشاكل كثيرة من خلال بعض العلماء الّذين لا يشكّ
الناس في طيبتهم وإخلاصهم وطهارتهم، لكنَّ مشكلتهم أنّهم كانوا معزولين عن الواقع،
لا يستطيعون أن يدركوا الواقع، فجاءهم المستعمرون من خلال بعض الأوضاع الَّتي كانت
تعيش في دائرتهم، على أساس أنّهم جاؤوا منقذين، في الوقت الذي جاؤوا مستعمرين، لأنَّ
هؤلاء الطيِّبين لم يستطيعوا أن يكتشفوا عمق اللّعبة السياسيّة الّتي تحرّك فيها
المستعمرون، ولم يستطيعوا أن يفهموا طبيعة اللّغة التي يتكلَّم بها المستعمرون،
ولهذا استطاع المستعمرون أن يستغلُّوا هذه الطّيبة في اتّجاه مصالحهم.
ولعلَّ الجوّ الثقافيّ الذي أراد أن يخدِّر الأُمّة، حاول أن يبيّن للناس أنَّ
الإنسان يكون عالِماً موثوقاً بقدر ما يكون ساذجاً، وبقدر ما يكون بعيداً من أمور
الناس وحياتهم، وبعيداً من فهم الواقع والحياة.
ولكنَّ الله علَّمنا أنَّ علينا أن نقتديَ بالعالِم العامِل الَّذي ليس هناك مَن هو
أفضل منه، وهو رسول الله (ص)، وقد قال الله لنا: {
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ
اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ
اللهَ كَثِيراً
}[الأحزاب: 21]. رسول الله (ص) كان يعرف كلّ مجتمعه، وكان يخاطب كلَّ
إنسان بما يعرف أنَّه يصل به إلى القناعة، وكان يحرّك الأمور من خلال دراسته لعمقها
لا لسطحها، كان لا يدخل حرباً إلّا بعد أن يحسب حسابها، وكان لا يواجه مشكلة إلّا
ويدرسها دراسة تامّة. كان أعرف الناس بالناس، وكان قريباً في الحياة، لقد دخل رسول
الله (ص) حياة الناس كلّهم، وكان يعمل على أن يطَّلع عليها. وكان القرآن يثقِّفه
ثقافة سياسيّة، فيثقِّف المسلمين من خلاله، عندما كان يُحدّثه عن المشركين، كيف
يتحرّكون، وكيف يجب أن يتحرَّك معهم، وكان يحدِّثه عن اليهود وكيف يواجه مؤامراتهم،
ويحدِّثه عن نفسيّاتهم وتاريخهم وأوضاعهم وأساليبهم، وعن النَّصارى ويميِّز بينهم
وبين اليهود.
هكذا كان يستفيد من كلِّ ما قال الله، حتّى قال: "أدَّبَني ربّي فأحسن تأديبي"1.
وكان يثقِّف المسلمين ليصنع عندهم وعياً سياسياً. في بعض الحالات، كان المسلمون
يستسلمون بفعل الطيبة. كان اليهود يعيشون في مجتمع المدينة، والمسلمون يشترون منهم
ويبتاعون، وكانوا يتصادقون، وربّما يستسلمون لهم ويعطونهم أسرارهم، فأنزل الله في
ذلك آية {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن
دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ
الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا
لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ
}[آل عمران: 118]، وهؤلاء لا تحبُّونهم ولا
يحبُّونكم، {
وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ
عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ
عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
}[آل عمران: 119].
وهكذا كان القرآن يعطي المسلمين وعياً سياسيّاً، أن ادرسوا النَّاس من حولكم في كلّ
أوضاعهم السياسيّة والاجتماعيّة، حتى تستطيعوا أن تتعرَّفوا الواقع، ولا تستسلموا
إليهم، عندما تعرفون أنَّ واقعهم عدوانيّ.
هذه المسألة من المسائل الأساسيّة الَّتي يريدها الله من علماء المسلمين ومن
المسلمين أنفسهم.
ولهذا، لا بدَّ من أن يكون الإنسان المسلم واعياً للواقع، فقد يصبر لكثيرٍ من
الأوضاع من أجل قضيَّة، وقد يجمِّد كثيراً من الشعارات لمصلحة الشِّعار الأكبر.
*من كتاب "الجمعة منبر ومحراب".
[1]البحار، ج:16، ص:210، باب:9.