من بين العناوين القرآنية التي تركِّز على بعض المظاهر السلبيَّة التي يُمكن أن
يقع فيها المؤمنون، عنوانُ اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، وذلك بأن يتركوا
للكافرين تدبير أمورهم وتخطيط أوضاعهم، انطلاقاً مما يملكه هؤلاء الكافرون من
الخصائص والامتيازات والمعلومات، فيتركون لهم إدارة الواقع الإسلامي، بينما لا
ينفتحون على المؤمنين الذين قد يملكون بعض القيادات الحكيمة والخبيرة، إذ يرون أنّ
الكافرين يملكون ما لا يملكه المؤمنون من الفرص والامتيازات والمواقع المتقدّمة في
السلطة أو في المال أو في الجاه، ممّا تنفتح عليه أطماعهم وطموحاتهم الذاتيّة أو
الفئويّة، فيتقرّبون إليهم ليحصلوا على مواقع العزَّة عندهم، لأنهم يشعرون بنقاط
الضّعف أمام الكافرين، ولا يعيشون العزّة في أنفسهم، هذا في الوقت الذي أراد الله
للمؤمنين أن يعيشوا العزَّة من خلال إيمانهم، ومن خلال علاقتهم بربهم، ومن خلال كلِّ
العناصر التي تتحرّك في أوضاعهم، وفي كلِّ القيم التي يوجّه الله المؤمنين إليها،
قال تعالى: {وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}(المنافقون: 8)،
العزَّة التي لا بدَّ لهم من أن يقتدوا فيها بالله العزيز، وبالنبيّ الذي يعيش
العزَّة من خلال ما أفاضه الله عليه من الرسالة، وما أطلقه في حياته من المواقع
القويَّة.
وذلك خلاف الإنسان المنافق، وهو الَّذي يظهر الدين ويبطن الكفر، ويظهر الإيمان
ويبطن الضَّلال، وينفتح على أطماعه وشهواته بدلاً من انفتاحه على مبادئه، ولهذا
أطلق الله هذا الخطّ بقوله: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا
أَلِيمً}(النساء: 138)، أولئك الَّذين لا يملكون الإخلاص في ما يلتزمونه من الخطوط
والمبادئ، فيتركون مجتمع الإيمان وخطوط الإيمان، ليتحركوا في خطّ الكفر. من هم
أولئك؟ {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}،
فيفضِّلون علاقتهم بالكافرين على علاقتهم بالمسلمين، ويخلصون للكافرين دون المؤمنين.
ثم يطلق الله التساؤل حول موقف هؤلاء الذين يُظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، حيث إنَّ
الإيمان يفرض على صاحبه أن يعتبر نفسه جزءاً من المجتمع الإيماني، وأن يتّخذ الموقف
الحاسم في الانفصال عن المجتمع الكافر، فلا يرى للكافرين ولايةً على المؤمنين، بل
يرى الولاية للمؤمنين، لأن الله يقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}(التّوبة: 71)، فهنـاك ولايـة مشتركـة فـي داخل
المجتمع الإيماني، فالمؤمن هو وليُّ المؤمن والمؤمنة، والمؤمنة هي وليّة المؤمنة [والمؤمن]،
{أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ} لأنهم يستشعرون الذلَّة في نفوسهم، ولا يجدون،
فيما يملكونه من أوضاعهم والفرص التي تتوفّر لهم، أيّ موقع للعزّة. ولكن يجب أن
يعرف هؤلاء، أن لا عزة لغير الله، لأنَّ العزة تنطلق من القوَّة، والعزَّة المطلقة
التي لا حدَّ لها تنطلق من القوَّة المطلقة التي لا حدَّ لها، {فَإِنَّ العِزَّةَ
للهِ جَمِيعً}(النساء: 139)...
ونستوحي من الآية الكريمة، أنَّ كلَّ من اتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، هو
في عداد المنافقين، لأنَّ الإخلاص يفرض على الإنسان المؤمن أن ينفتح في ولاية
الأمور على المؤمنين، لا على الكافرين، ليتعاون معهم، وليتواصل معهم في تقوية
الموقع الإسلامي، على المستوى الثقافي والسياسي والأمني والاجتماعي والاقتصادي.
* من كتاب "النَّدوة"، ج 16.