هذه مسألة قد نحتاجها في حياتنا السياسيّة وفي حياتنا الاجتماعيّة، وفي أكثر من لون من ألوان الحياة، عندما نلتقي بالعصبيَّة الكامنة في أعماقنا، فنحن، ولا سيَّما في الشَّرق، عاطفيّون، والعاطفة ليست شيئاً طارئاً في حياتنا، والعاطفة أمرٌ مقدَّس، فليس سلبياً أن تكون لك عاطفة، بل السلبيَّة أن لا تكون لك عاطفة، لأنَّ الله يذمّ قسوة القلب، ولكن المسألة هي أنَّ العاطفة عندما تتحوَّل إلى عصبيَّة، وعندما تتحجَّر، فلا تكون مجرَّد نبضة قلب وخفقة إحساس، وعندما تتحوَّل العاطفة إلى موقف ضدّ مبادئك، وعندما تتحوَّل إلى حركة في طريقك، وعندما تسيء إلى الهدف، فإنها عاطفة مرفوضة.
إن الكثير من الناس متعصّبون عاطفياً، أمَّا الإنسان المفكِّر، فلا يمكن أن يكون متعصّباً، ذلك أن العصبيَّة لا تقترب من الفكر، بل هي أن تغمض عينيك وتتحرَّك، أمَّا الفكر، فهو أن تلتزم بفكرك، ولكنّك تظلّ مفتوح العينين، تتأمَّل في فكرك دائماً، فلعلَّك تكتشف فيه بعض الخطأ، وتتأمَّل في فكر الآخر، فلعلَّك تجد فيه بعض الضّوء الّذي يثير لك بعض الظّلمات الّتي تواجهها في فكرك.
إنَّنا متعصّبون؛ نتعصّب للشَّخص، ونتعصّب للطائفة، ونتعصّب للحزب، ونتعصّب للعشيرة، ونتعصَّب للذَّات.
أيُّها الأحبَّة، إنَّ هذه حالة صنميَّة، لأنك تحوّل من تتعصَّب له إلى وثن تعبده، وقد لا يكون هو وثناً، ولكن إحساسك بعلاقتك به تشبه الوثنيَّة، ولقد كان المشركون يتعبَّدون للملائكة، والملائكة براء من ذلك، لكن نفس هذا الاستغراق في الذات يمثّل نوعاً من أنواع الصنميّة، لأنَّك لا تفكّر في الشخص الذي تتعصَّب له من خلال ما يمثِّل من قيمة، ولكنك تتعصَّب له من خلال ما يمثِّل من جانب الذات، وهكذا بالنِّسبة إلى الطائفة التي تنطلق من خلال قيم ومبادئ ومفاهيم، ولكنَّك قد تبدأ من هذه القيم، تم تتحوَّل بعد ذلك إلى أن تبتعد عن كلِّ ما في الطائفة من قيم، ليكون موقفك أنّك تتعصَّب لمجموعة بشرية ولمجتمع بشريّ، بعيداً من خطّ الاستقامة والانحراف، كما يروَى عن الإمام عليّ بن الحسين (ع): "العصبيَّة التي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرَّجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبيَّة أن يحبّ الرّجل قومه، ولكن من العصبيَّة أن يعين قومه على الظّلم"1.
إنك عندما تتعصَّب لقومك حتى لو كانوا منحرفين، وحتى لو كانوا مبتعدين عن العنوان الذي أعطاهم معنى القيمة، فإنك تأثم، لذلك فإنّ أوّل ما ينبغي للمؤمن عمله، إذا كان يخاف الله ويخشى ذلك اليوم، أن يعرف أنّ من يتعصَّب له لن ينفعه يوم القيامة، وأنَّ عليه أن يخفِّف تعصّبه.
وقد كرَّرنا كلامنا في هذه النَّدوة وفي غيرها، أنَّ هناك فرقاً بين التعصب والالتزام؛ التعصّب أعمى والالتزام مبصر، التعصب يغلق عقلك وقلبك عن الآخر، والالتزام ينفتح على الآخر حتى لو اختلف معه.. التعصّب ينطلق من خلال عبوديّة لمن تتعصّب له وحقد ضدّ من تتعصَّب عليه، والالتزام يبقى مع الفكر ويلتزم مع من التزم به في خطِّ الفكر، ويختلف مع الآخر وهو يدرس فكره من خلال حوار الفكر..
وربما كانت مشكلتنا في الوسط الديني السياسي الاجتماعي، هي هذه العصبيَّة التي تغلق عقلك عن عقول الآخرين، وتغلق قلبك عن قلوب الآخرين، وتجعلك إنساناً يتحرَّك كما لو كان وحده.
* من كتاب "النَّدوة"، ج4.
[1] ميزان الحكمة، محمّد الريشهري، ج3، ص 1993.