[يقول الإمام زين العابدين (ع) في دعائه إذا ابتدأ بالدّعاء بالتَّحميد لله عزَّ
وجلَّ:]
"
والحَمْدُ لله بكُلِّ ما حَمِدَهُ بِهِ أدْنَى مَلائِكَتِهِ إلَيْهِ، وأكْرَمِ
خَلِيقَتِهِ علَيْه، وأرْضَى حَامِدِيه لَدَيْهِ، حمْداً يَفْضُلُ سَائِرَ الحَمْدِ
كَفَضْلِ رَبِّنَا على جَمِيعِ خلْقِه.
ثُمّ لهُ الحمْدُ مكانَ كُلِّ نعْمَةٍ لَهُ عَلَيْنَا وعَلَى جَمِيعِ عِبَادِهِ
المَاضينَ والبَاقِينَ، عَدَدَ ما أحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ مِنْ جَميعِ الأشْيَاءِ،
ومَكَانَ كُلِّ واحِدَةٍ منْهَا عدَدُها أضْعافاً مُضَاعَفةً أبداً سَرْمداً إلى
يَوْمِ القِيَامةِ، حَمْداً لا مُنْتَهى لِحَدِّه، ولا حِسَابَ لِعَدَدِهِ، ولا
مَبْلَغَ لِغَايَتِهِ، ولا انْقِطاعَ لأمَدِهِ، حَمْداً يَكُونُ وُصْلَةً إلى
طَاعَتِهِ وعَفْوِهِ، وسَبَباً إلى رِضْوانِهِ، وذَرِيعةً إلى مغْفِرَتهِ، وطَريقاً
إلى جنَّتِهِ، وخَفيراً منْ نِقْمَتِهِ، وأمْناً مِنْ غضَبِهِ، وظَهيراً على
طاعَتِهِ، وحَاجِزاً عَنْ معصِيَتِهِ، وعَوْناً على تأدِيَةِ حقِّهِ ووَظائِفِهِ،
حمْداً نسْعَدُ بِهِ في السُّعَداءِ مِنْ أوْلِيائِه، ونَصيرُ بِه في نَظْمِ
الشُّهداءِ بِسُيُوفِ أعْدائِهِ، إنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيدٌ
".
ويبقى للحمد في امتداده الدَّرجة العليا في ما نختاره منه وننفتح عليه، لأنّنا نريد
أن نحمد الله لنبلغ به الغاية القصوى، فنتطلَّع إلى أقرب ملائكته إليه، وأكرم
خليقته عليه، وأرضى حامديه لديه، ليكون حمدُنا له في مستوى حمد هؤلاء جميعاً، في
روحيَّة الحمد وإخلاصه وعمقه وامتداده ووعي معانيه.
ويتصاعد الطّموح، فنتطلَّع إلى حمدٍ لا يصل إليه أحد، بحيث يفضل باقي الحمد، فلا
يقترب حمدٌ منه، تماماً كما هو فضل ربّنا على جميع خلقه، فيتفرَّد حمدنا له كما
تفرَّد سبحانه بالفضل.
وإذا كنّا نحمده في مواقع نعمه ليكون الحمد تعبيراً عن الحمد لله في معنى الشّكر له،
فإنّنا نتطلَّع إلى كلِّ نعمه التي لا نحصيها في ما أنعم به، وما ينعم به علينا،
نحن بني الإنسان من الماضين والباقين، ليكون حمدنا له عدد ما أحاط به علمه من نعمه
علينا في جميع الأشياء، ليكون هناك مكان كلِّ نعمةٍ ما يقابلها أضعافاً مضاعفةً من
الحمد الخالد في حجم الأبد المستمرِّ إلى يوم القيامة، حتى تكون حركة الوجود في
الإنسان مرادفةً لحركة الحمد في وجدانه ولسانه، لا يكون له حدٌّ يصل إليه، ولا عددٌ
ينتهي إليه، ولا غايةٌ يقف عندها، ولا أمدٌ ينقطع فيه.
ثمَّ إنَّ للحمد في وعينا الإيماني وظيفةً في حركة القرب إلى الله، بما يختزنه في
مضمونه من إيماننا به، وحبّنا له، وخوفنا منه، ورغبتنا إليه، وخشوعنا له، وخضوعنا
لربوبيّته، فيكون له تأثيره الإيجابي في الوصول إلى درجة طاعته وعفوه، والحصول على
رضوانه والوسيلة إلى مغفرته، وليكون طريقاً إلى جنّته، وحارساً من نقمته، وسبباً
للأمن من غضبه، ومعيناً على طاعته، وحاجزاً عن معصيته، وعوناً على تأدية حقّه، في
ما كلّفنا به من الانقياد لكلّ أوامره ونواهيه، والقيام بوظائفه التي تلتقي
بمسؤوليَّاتنا العامّة والخاصَّة في الحياة، ليكون ذلك كلّه أساساً للسَّعادة
الدنيويَّة والأخرويَّة، فنكون من السّعداء الَّذين يعيشون فرح السَّعادة في رضوانه
وفي نعيم جنَّته، ولنكون - في جهادنا لأنفسنا في التمرّد على نوازعها الخبيثة
وأوامرها السيّئة، وفي مواجهة الضّغوط القاسية التي تريد أن تفرض علينا الانحراف
مما يضغط به أعداء الله - معدودين من الشّهداء الذين جاهدوا بأنفسهم في سبيل الله،
فبلغوا الدَّرجة العليا في كرامة الله لهم، عندما سقطوا في خطِّ المواجهة بسيوف
أعداء الله، ليلتقي لديه الشّهداء الأموات الَّذين هم أحياء عند ربّهم يرزقون،
والشّهداء الأحياء الَّذين يموتون في كلِّ يوم ميتةً جديدة في خطِّ المواجهة
الفكريَّة والروحيَّة والعمليّة ضدّ أعداء الله، ليحيوا غداً عند ربّهم في منـزل
كرامته، والله هو الوليّ الحميد.
*من كتاب "في آفاق الرّوح"، ج1.