إنَّ الفكرة التي نستوحيها من قصَّة المؤمنين المستضعفين في موكب الأنبياء، أنَّ
الفئات المستضعفة في المجتمع هي القاعدة الصَّلبة الكبيرة للدّعوات الخيّرة،
وللرّسالات الإلهيَّة، لأنّها تلتقي بتطلّعاتها ومطامحها وأمانيها في الحياة، فتحسّ
ـــ من خلالها ـــ بعودة إنسانيّتها المقهورة المهدورة إليها، وترتفع بها إلى القمم
الكبيرة، في الوقت الَّذي يعمل الآخرون من الطّغاة والمستكبرين على إبقائها في
الحضيض.
ولأنّها لا تعيش التعقيدات النفسيّة والروحيّة والماديّة الّتي تحجبها عن رؤية
الحقيقة والإيمان بها، ما يجعلها بعيدة من مواقع التعنُّت والتعصُّب الأعمى، في
الحالات الّتي ترتفع عنها الضّغوط المباشرة التي يمارسها الأقوياء ضدّها.
وعلى ضوء هذا، فإنّ المهمَّة الكبيرة التي تنتظر الدّعاة إلى الله، هي الاهتمام
بالعمل في أوساط المستضعفين، وذلك بتفجير الطّاقات الكبيرة الموجودة في داخلهم،
ومحاولة الانفتاح على آمالهم وآلامهم في صعيد الواقع، لإبعادهم عن استغلال تيّارات
الكفر والضَّلال لهم، ومواجهة الحالات الشاذّة التي تعيش في أوساطهم بالحكمة
والأسلوب الطيّب، والإيحاء إليهم بروح الاحترام لإنسانيَّتهم ولأوضاعهم الخاصَّة
والعامَّة، ورفض التَّمييز الطبقيّ الاجتماعيّ الّذي يخضع التّقييم لعوامل طارئة لا
يؤمن بها الإسلام.
وليس معنى ذلك أن نحترم الأخطاء والعيوب والسلبيّات التي يعيشونها، بل كلّ ما هناك،
أن ننظر إلى ذلك كلّه بروح الدّراسة الواعية الَّتي تعمل على معالجة الأخطاء من
موقع اعتبارها حالة إنسانيّة طبيعيّة، لا ترتبط بالمستوى الاجتماعيّ، بل ترتبط
بالحالة الطبيعيّة للخطأ في الإنسان.
إنّ علينا أن نستفيد من الأنبياء كيف انطلقوا من مواقع المستضعفين بعيداً من كلّ
أوضاع المترفين، فاستطاعوا أن يمنحوا رسالاتهم قوّة دفع عظيمة، لا تختنق بمواقع
الترف ونزواته، بل تحلّق مع النّور السّابح في أجواء الحياة، المتفجّر من ينابيع
الفطرة السليمة للمؤمنين.
*من كتاب "الحكمة في خطِّ القرآن".