رغم وجود البيّنات التي يضعُها الأنبياء (ع) بين أيدي النّاس، فإنّهم يختلفون في
موالاةِ الحقّ {
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ
}[الزخرف: 65]، فهناك مَنْ آمَن، وهناك مَن
كفر، والَّذين كفروا ظلموا أنفسَهم بهذا الكفر، فظلمُوا الحقيقة، وسينالون على
ظلمهم عذاباً عظيماً يوم القيامة.
ثمّ يتوجَّه القرآن بالحديث عن هؤلاء الَّذين يظلمون أنفسَهم فيكفرون، أو يظلمون
أنفسهم فَيفْسُقون، أو الَّذين يظلمون النّاسَ فيعتدون عليهم، أو الَّذين يَظْلِمون
ربَّهم فيُشركون به ويَعْصُونه، هؤلاء ألا يفكّرون أنَّ حياتهم الدّنيا ليست خالدةً
في وجودهم؟ ألا ينظرون إلى مَنْ سبقهم من النَّاسِ كيف عاشُوا وماتوا، وإلى
الطُّغاة والظَّالمين كيف أماتَهم الموتُ فجأة؟ ألا ينتظرُ هؤلاء أن يأتيَهم الموت
بغتةً ليواجهوا الحسابَ أمامَ الله يوم القيامة؟
{
هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا
يَشْعُرُونَ
}[الزخرف: 66] وتأتيهم الساعةُ، والسّاعةُ يوم القيامة، والقيامةُ هي
يوم الفصل {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَات}[النبأ: 17]، ويومُ الفصل هو
يومُ التَّغابن {
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ
التَّغَابُنِ
}[التّغابن: 9]، حيث يشعرُ الإنسان بالغَبْن لأنَّه ضيَّع حياتَه فيما
لا يُرضي الله، ويلتقي هناك الذين كانوا يتصادقون على لهوٍ وعبثٍ وشرابٍ حرام وشهوةٍ
محرَّمة، وعلى موقفٍ وموقعٍ حرام، فهؤلاء الَّذين كانت صداقاتُهم قائمةً على الفجور،
وكان بعضهم ينفتح على بعضٍ بالمحبّةِ والصَّداقةِ، هؤلاء إذا وقفوا يومَ القيامة،
فإنَّ الصَّداقة تتحوَّلُ إلى عداوة، حيث يحمِّل بعضُهم بعضاً المسؤوليَّةَ فيما
وصلوا إليه وفيما واجهوه، ويُلقي بعضُهم على بعضٍ اللَّوم، لولاكم لكنَّا مؤمنين،
ويتلاقون في النَّار، فيتحاجُّون، ويتحدّثُ المستضعفون مع المستكبرين الذي أضلُّوهم
بسبب استضعافهم و{كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَ}[الأعراف: 38]،
وينطلقُ الجيلُ المتأخِّر ليحمِّل الجيلَ المتقدِّم المسؤوليَّة في ذلك كلِّه،
فتتقطَّعُ الأنسابُ، وتتقطَّعُ العلاقات..
وحدَها الصَّداقاتُ الَّتي انطلقت في الدّنيا على أساسِ حبِّ الله ورسالتِه
والدَّعوة إليه والجهادِ في سبيله، وحدَها تبقى إلى يوم القيامة، الصَّداقاتُ
القائمةُ على الحبِّ في الله والبُغضِ في الله. فالصَّداقةُ الَّتي تستمدُّ حركتها
في الله، سوف تبقى عندما يُعْرَضُ النَّاس على الله يوم القيامة {
الْأَخِلَّاء
يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ
}[الزخرف: 67]، فكلُّ
علاقة ترتكز على رضى الله فهي علاقة تمتدّ للآخرة، وكلُّ علاقة تستند على الشّيطان،
فإنَّها تتقطَّع يوم القيامة.
* من كتاب "من عرفان القرآن".