[يقول الإمام زين العابدين (ع) في دعائه في الصّلاة على محمّد وآل محمّد:]
"
الحَمْدُ لله الّذِي مَنَّ علَيْنَا بمُحَمَّدٍ نبِيِّه - صلَّى الله عليْه وآلِهِ
- دُونَ الأمَمِ المَاضِيَةِ، والقُرُونِ السّالِفَةِ، بقُدْرَتِهِ الّتي لا
تَعْجَزُ عَنْ شَيءٍ وإنْ عَظُمَ، ولا يَفُوتُهَا شيءٌ وإنْ لطُفَ، فخَتَمَ بِنَا
علَى جَميعِ مَنْ ذَرَأ، وجَعَلَنا شُهَداءَ عَلَى مَنْ جَحَدَ، وكَثَّرَنَا
بِمَنِّه عَلَى مَنْ قَلَّ."
في هذا الدّعاء حديثٌ عن النبيّ محمّد (ص) بالتَّحميد لله على منّته على هذه
الأمَّة، باختيارها - من بين الأمم - ليكون محمَّد (ص) نبيَّها المرسل الذي يتميّز
على الأنبياء بموقعه من ربّه، ودرجته الرفيعة عنده، وصفاته العظيمة في شخصه،
لتتحوَّل القضيَّة إلى أن تكون هذه الأمّة - من خلال هذا الامتياز الرساليّ -
الأمّة الشّاهدة على الخلق الجاحدين، لأنَّ عظمة الرسالة جعلتها في موقف الحكم
المنفتح على قضايا الناس والحياة، من خلال الوعي الذي تكتسبه من ذلك، لتعرف كيف
تراقب حركة الناس في الخطّ الإلهيّ الذي يريد لهم أن يسيروا عليه، ليحصلوا على
الكثير من النتائج الطيّبة في تجربة الإنسان للحياة في الدنيا التي أوكل إليه فيها
أمر الخلافة في الأرض. وهكذا كانت المنَّة الثانية تكثير أفراد هذه الأمَّة مقارناً
بالأمم الأخرى في عمليَّة التكاثر المتنوّعة.
وينطلق الدعاء - ثانيةً - بالصّلاة على محمّد (ص) التي تمثَّل النداء الإلهيّ الذي
تحوَّل إلى شعار مميَّز للمسلمين جميعاً، وذلك في قوله تعالى: {
إِنَّ اللهَ
وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً
}[الأحزاب: 56]. وربّما كان الأساس في ذلك،
توجيه الأمَّة إلى الارتباط بالنبيّ من الناحية الشعوريّة، في إحساسها الدائم
بقيمته الروحيَّة في منـزلته عند الله، وجهده الكبير في إبلاغ الرّسالة، ومعاناته
في العمل في سبيل الله دعوةً وحركةً وجهاداً، ومحبته للمؤمنين من أتباعه، ورأفته
بهم ورحمته لهم وحرصه عليهم وشعوره بمتاعبهم وآلامهم، ما يوحي للمسلمين بالتفاعل
النبويّ الروحيّ مع أمّته في حياتها العامّة والخاصّة، ليعيشوا الارتباط به من خلال
هذا الشّعار الذي يهتفون به صباحاً ومساءً، ويهمسون به في داخل وجدانهم كلّما ذكروه
وانفتحوا عليه، وليبادلوه حبّاً بحبّ، وروحاً بروح، وليتعمّق في داخلهم معنى الكلمة
الإلهيّة: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ}[التوبة: 128]، في عمليّة
إيحائية بأنّه منهم وهم منه، في المعنى الإيحائيّ للكلمة، حتى لو كانت اللّغة في
مضمونها اللغوي لا تدلّ على ذلك، لأنّ لحركة اللّغة في وجدان الناس الكثير من
الإيحاءات التي تنطلق من إحساس المتكلّمين بها ومن آفاقهم التي تنفتح الكلمة عليها.
ومما يزيد هذه الصّلاة عمقاً، أنَّ الله يبدأ بالحديث عنها من حيث إنّها بدأت منه
ومن ملائكته، في تعبيرٍ يوحي بالاستمرار، ليحسّ المسلمون بأنَّ صلاتهم عليه تابعةٌ
لصلاة الله وملائكته عليه، وأنّها تمتزج وتنفتح على الصَّلاة الإلهيَّة
والملائكيَّة، ما يوحي بالعمق الإيماني للكلمة في وجدان قائلها.
وقد استطاعت هذه الصَّلاة ـ الشّعار، أن تجسِّد حضور النبيّ (ص) في وجدان الأمَّة
في كلّ جيل، فلم تشعر بغيابه عنها، الأمر الَّذي تزداد به الروحية الإسلامية في نفس
المؤمن، فيرى نفسه كما لو كان جالساً إليه، وسائراً معه، ومستمعاً إليه، وتابعاً
له، تماماً كما في إحساسه العميق بحضوره عنده عندما يقف داعياً له في طلبه من الله
أن يرفع درجته وأن يُعليَ شأنه.
* من كتاب "آفاق الرّوح"، ج 1.