أجرت صحيفة اللواء اللبنانية حواراً مع سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله تناولت فيه واقع الحالة الإسلامية وسيطرة المذهبية على مجمل منطلقات بعض الحركات الإسلامية، وهذا نص الحوار:
التقوقع المذهبي
* هل يمكن لمواجهة الاستكبار العالمي أن تدفع بالحالة الإسلامية للجوء إلى قواعدها المذهبية الأساسية لاستحداث تكتل يحميها؟
- أعتقد أن المسألة التي لا بد للمسلمين من أن يأخذوا بها أمام قوة الاستكبار العالمي على جميع المستويات الاقتصادية والأمنية والسياسية والعلمية، هي أن تكون هناك خطَّة لتوعية المسلمين بالخلفيات التي تكمن وراء حركة الاستكبار العالمي، من أجل إيجاد عقدة إسلامية ضدّ الخطط التي يخطِّط لها هذا الاستكبار، حتى نستطيع تحصين الإنسان المسلم فكرياً من الخضوع لهذه الحملة الاستكبارية التي تطلق بعض العناوين الكبرى، كالديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات، ولكن على أساس كلمة حقٍّ يراد بها باطل، لأنّنا نعرف أن ما تهتمُّ به الدول الاستكبارية هو مصالحها الاستراتيجية في العالم الإسلامي، وليس لها أيّة أهداف لتنمية العالم الإسلامي لحساب قضاياه الحيوية وأوضاعه المصيرية.
لذلك، لا بدَّ للمسلمين من أن يعرفوا أن الاستكبار العالمي في إداراته الرسمية، يمثل خطراً على الإسلام والمسلمين، وعلينا أن نفرّق دائماً بين الإدارات الرسمية لدول الاستكبار العالمي، وبين شعوب تلك الدول، من أجل أن نعمل على النفاذ إلى تلك الشعوب والدخول في حوارات معها، لأنّ ما يهمُّنا هو أن ننفتح على الشعوب الأخرى في حوار الحضارات وفي حوار الأديان والسياسات في هذا المجال، لأننا إذا استطعنا أن نعقد صداقة مع هذه الشعوب، فإننا نستطيع أن نؤثِّر تأثيراً إيجابياً على الإدارات التي تحكم هذه الشعوب.
الدول والمصالح
* هل من الضَّروري أن تتصادم مشاريع الدُّول الوطنية مع إسلامية الأمَّة، بمعنى أنَّ الإسلام هو دينٌ للأمة، ولكن لكلّ دولة مصالحها؟- نحن نعتقد أنَّ الإسلام هو الذي يوجِّه الأمَّة نحو مصالحها، فالإسلام يؤكّد أن يتحمَّل كل فرد من الأمة مسؤوليته بحسب قدرته على رفع مستواها، ولعلنا نستوحي ذلك من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}(الأنفال/24). فالإسلام هو دعوة للحياة ولكلِّ ما يرفع مستوى الحياة ويقوّيها وينمّيها، ونحن نعتبر أنَّ الإسلام اعتبر العقل القاعدة للحركة الإسلامية الفكرية الثقافية والواقعية، واعتبر العلم القيمة التي تميِّز إنساناً عن آخر، وأراد من المسلمين أن يزدادوا علماً، فكلَّما أخذوا موقعاً للعلم، بدأوا بالصّعود إلى المواقع الأخرى، وهذا هو معنى قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}.
ونحن نعرف كيف أنّ الله ضرب المثل للحق والباطل، فقال: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}، ونحن نعرف من هذا أن الإسلام يريد من الأمة كلها أن تعمل على ما ينفع الناس، وهذا هو خط الحق وخط الإسلام، فلا تناقض بين حركة الأمة في ما ينفعها، وبين حركة الإسلام في التخطيط لذلك.
المسلمون الأداة
* كيف نحول دون توظيفنا كأداة في الخلافات الأميركية - الروسية أو الأميركية – الأوروبية، بحيث نمنع من تحويلنا إلى كبش محرقة لتلك الصراعات؟- ذلك عندما نكون الأقوياء من خلال عناصر القوة الأصيلة، لا من خلال حالات التهويل أو حالات الإرهاب أو ما إلى ذلك، بما يمكن أن يحمّل المسلمين الكثير من المشاكل والتعقيدات والأخطاء، وعندما نأخذ بالأساليب الحضارية الإسلامية في علاقاتنا مع الدول الأخرى، وفي دراساتنا للثغرات التي يمكن أن ننفذ من خلالها للاستفادة من هذه الصراعات بين دولة شرقية ودولة غربية وما إلى ذلك، مما يكيد به الآخرون للإسلام والمسلمين، وبأن نعقلن الحركة السياسية والحركة الأمنية، وأن نطلق في عالم العقل الحركة الثقافية.
إسلام واحد
* هل يمكن الحديث عن إسلام معاصر وإسلام تراثي في ظل اعتراف المفكرين الإسلاميين المعاصرين بالمشاكل الموجودة في تراثنا؟- الإسلام هو دين واحد، ليس هناك إسلامان أو إسلامات، ولكن المسألة هي كيف نفهم الإسلام في أصالته وينابيعه ومناهجه ليكون قاعدة للفكر والحياة؟
إنّ المسألة ليست أن هناك إسلاماً قديماً وإسلاماً جديداً، بل إنّ هناك فهماً للإسلام في ما أخذ به الأقدمون من خلال الخطوط الثقافية التي سيطرت على ذهنياتهم، فجعلتهم يفهمون النصوص من خلال المفردات التي يعيشونها، لذلك نحن نقول كم ترك الأول للآخر. إنّ علينا أن لا ننظر إلى اجتهادات الماضين على أساس أنها تمثل الحقيقة أو القداسة، بل أن نعتبر أنَّ الآخرين كان لهم فكرهم الّذي أخطأوا في بعضه وأصابوا في بعضه، وعلينا، ونحن نعرف كلِّ ثقافتهم وما لا يملكونه من الثقافة مما استحدثته العصور اللاحقة، أن نعرف كيف نفكر في الإسلام، تماماً كما لو لم يفكر فيه أحد، وأن نبتعد عن تقليد الاجتهادات السابقة واعتبارها مقدسات، لأنه لا مقدَّس إلا ما قدَّسه الله، أمّا الإنسان المثقَّف المجتهد، فهو إنسان يخطئ ويصيب، ونحن نحترم اجتهاده في خطئه وإصابته، وعلينا أن نجتهد على أساس الأصالة والمعطيات.
علينا أن نبتعد عن تقليد الاجتهادات السابقة واعتبارها مقدسات، لأنه لا مقدَّس إلا ما قدَّسه الله |
سلبيات ودائرتان
* لماذا نغرف من إسلام الكتب والتّراث ومشاكله كلما كثر الحديث عن الوحدة الإسلامية؟
- هناك دائرتان تتحرك فيهما سلبيات الواقع الإسلاميّ، أوَّلهما دائرة التخلّف التاريخي الذي يحاول أن يستعيد العصبيات والحساسيات، ويحاول القيام بعملية إثارة للطريقة التي يدير بها الواقع الإسلامي هذه الأمور، وفي هذا السياق، نحن نعرف أن مسألة الخلافة والإمامة بدأت منذ انتقال النبي(ص) إلى رحاب الله، ولكن الذين عاشوا هذه الخطوط، اندمجوا في المسألة الإسلامية، لأنّهم كان يعتبرون أن مصلحة الإسلام العليا هي الأساس أمام التحديات التي تواجه هذا الواقع، سواء في الخارج من خلال تحديات الفرس والروم، أو في الدَّاخل من خلال تحديات المنافقين الذين تحدث الإسلام عنهم كثيراً، والذين تحالفوا مع اليهود على الرغم من أنَّ النبي(ص) أخرج أكثرية اليهود من المنطقة، ولكنهم امتدوا بطريقة وأخرى من خلال دخول بعضهم في الإسلام من أجل أن يكيدوا له، أو من خلال التواجد اليهودي هنا وهناك، هذا إضافة إلى بعض الطموحات التي كانت لدى بعض المسلمين، والتي كانت تخطط لإيجاد بعض الخلافات التي فرضت نفسها على الواقع الإسلامي في الاغتيالات التي حدثت، أو في الفتنة التي أثيرت هنا وهناك.
إننا نلاحظ من خلال القضية التي كانت مطروحة في مسألة الخلافة والإمامة، أنّ الإمام علي(ع) انطلق ليدعم الذين تقدَّموه، في الوقت الذي كان يرى هو ومن معه أن الحق له، لأنه كان يفكر في الإسلام، ولم يكن يفكر في الجانب الذاتي، وهذا ما عبر عنه في كتابه إلى أهل مصر المنشور في نهج البلاغة، حيث قال: "لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلاّ عليَّ خاصة".
ونحن نعرفُ كيف انطلق(ع) ليعطي النُّصح والمشورة للحلفاء، حتى قال الخليفة الثاني عمر ابن الخطاب: "لولا عليٌّ لهلك عمر"، وكيف أنه أشار عليه بعدم الذهاب إلى ساحة المعركة في الحرب ضد الفرس، رغم إشارة القيادة عليه بذلك، لأنّه كان يخاف عليه من أن يقتل في تلك المعركة، لأن الفرس سوف يندفعون إليه.
إننا نعتقد أن علياً(ع) كان رائد الوحدة الإسلامية، وأنّ الصحابة الذين اختلفوا في مسألة الخلافة والإمامة، عملوا على أساس اعتبار الهدف الأساسي هو مسألة حفظ الإسلام والمسلمين. لذلك عملوا في هذا الاتجاه مع بعض السلبيات هنا وهناك، فهذه المسألة لم تنطلق لتخلق مشكلة حادّةً بين الفرقاء الأساسيين في هذا المقام، ونحن نعرف كيف أنّ بعض الأوضاع القلقة في الواقع الإسلامي انطلقت بعد ذلك، أي بعد الفتنة التي انتهت بقتل الخليفة الثالث عثمان، ثم بعد تسلّم الإمام علي(ع) الخلافة ومواجهته من قبل الطامحين لها، ما أدَّى إلى انحراف في الواقع الإسلامي عن الخط المستقيم بطريقة وبأخرى.
وأضاف: أمَّا الدائرة الثانية التي تثير هذا الجوّ، فهي دائرة المخابرات الدولية، والتي عملت وتعمل للسيطرة على العالم الإسلامي كلّه، بإثارة الفوضى في داخله، ومحاصرته بأكثر من خطّة اقتصادية وسياسية وأمنية. ومن الطبيعيّ أنّ من بين الأمور التي حاولت وتحاول أجهزة المخابرات الدولية في العالم إثارتها، هي إثارة المسائل المذهبية والعرقية والقومية، مستفيدة من قوى التخلف التي لا تزال تفرض نفسها على الذهنية الإسلامية، والتي لا تزال تعيش في التاريخ من خلال عصبياته، ولا تعيش في الواقع للانفتاح على المستقبل. إنَّ مثل هؤلاء أصبحوا خاضعين للعبة الدولية الاستكبارية التي تريد أن تشغل المسلمين بهذه العصبيات التاريخية، لتعرف كيف تسيطر على الواقع كلّه هنا وهناك.
العلماء والمعاصرة
* من المسؤول عن غياب العلماء المعاصرين عن مشاكل مجتمعهم، واستغراقهم في استحضار التاريخ وكوارثه ومصائبه؟-
المشكلة أنّ كثيراً من المواقع الدينية لا تزال تعيش في كهوف التاريخ، لأنها ترى أنّ ذلك هو الذي يحفظ الإسلام في أصالته، وخصوصاً هؤلاء الذين ينطلقون تحت العنوان الكبير، وهو السلفية، التي قد لا نجد فيها سلبية كبرى إذا أريد منها الرجوع إلى الأصول ودراستها بطريقة علمية موضوعية، لتحريكها من أجل إسلام مستقبلي يمكن أن يدفع المسلمين إلى الأخذ بأسباب التقدم من خلال جوّ المعاصرة.
فنحن لا مشكلة عندنا في أن نرجع إلى الأصالة لنجتهد في مفرداتها، ولننفتح بها على الواقع كلّه، فالأصالة ليست ضد التقدم، ولا ضدّ الانفتاح، باعتبار أنها تمثل الجذور العميقة للإسلام في عقيدته ومنهجه للحياة، ولكنَّنا نتحدث عن السلفيَّة التي تحاول أن تتجمَّد عند النصوص من دون أن تقرأها قراءةً واعية لتنفتح بها على التطورّات الموجودة في العالم، ولتعطي الواقع الإسلامي الكثير من العناوين الكبرى في حركة التطوّر والتقدّم التي يمكن لها أن تجعل الإسلام كما كان، عنواناً حضارياً يأخذ باسباب العلم من خلال حركة العقل في الانفتاح على الإنسان كلِّه، ولا سيّما من خلال الحوار العقلاني والأصالة الإسلامية والحضارة الإسلامية المنفتحة على الإنسان، والتي تواجه المشاكل الحقيقية، ولا سيما خطر العولمة المتنوّعة الأبعاد، كالعولمة الثقافية والاقتصادية والسياسية. إنّ المشكلة هي أنّ الكثير من حكام العرب والمسلمين يعيشون تحت تأثير حفاظهم على مواقعهم الرسمية، ولا يفكّرون في المواقع الإسلامية الحضارية التي يمكن أن تفتح الإسلام على الواقع كلّه، وأن تدخل في حوار حضاري بين الإسلام والغرب، أو بين الإسلام والعناوين الأخرى، أو بين المذاهب المتنوّعة فيه وما إلى ذلك.
فالمشكلة هي أن القائمين على الدول الإسلامية أصبحوا مشكلة للإسلام بدلاً من أن يكونوا حلاً لما يواجهه من مشكلات. لذلك فإنهم يقفون ليراقبوا ويمنعوا حركة الفكر الإسلامي الذي يرتكز على أساس الحرية والأصالة والتقدم، لأن ذلك لا ينسجم مع طموحاتهم أو مع أطماعهم.