مقال..
هل يمكن أن تكون هناك علاقة بين علم اللاهوت وعالم السياسة؟ هل من الممكن أن يكون للدِّين أثرٌ في السياسة من دون تعريض مدنيَّة دولةٍ ما للخطر، ومن دون أن تفقد السّياسة فاعليَّتها، ويحيد اللاهوت بالدِّين عن مجراه، هل من الممكن، وفق تعبير عالم اللاهوت المسيحي الألماني «متس»، أن تتأسَّس روحانيّة سياسيّة؟ كيف يمكن أن نقول للبشر «الله محبّة» من طريق السياسة؟ من دون أن يحدث تدخّلٌ من اللاهوت في السياسة، ومن دون المساس بمدنيّة الدّولة؟ هل يمكن أن نستطيع تطبيق هذه التّجربة في شرقنا العربيّ في مجال اللاهوت؟
هذا الكتاب للأب الدّومنيكاني الشابّ، جون جرجس، يجيب عن هذه الأسئلة، وهو ثمرة أربع سنواتٍ في دراسة موضوع اللاهوت السياسيّ، مستخدماً خبرة العلاقة بين اللاهوت وبين ما حدث من استغلاله في أوروبّا لتحقيق مآرب سياسيّة، ويسعى لوضع أسسٍ تجعل من اللاهوت حائط صدٍّ لعدم استغلاله سياسيّاً ولعدم استعماله في تبرير المآسي.
والمؤكَّد وفق المؤلّف، أنّ اللاهوت السياسيّ تعبيرٌ لم تعتده مسامعنا في العالم العربيّ، وحين نسمعه، تنهض داخلنا مخاوف وشكوك، فيتبادر إلى أذهاننا ما يقوم به كثيرون من إقحامٍ للدّين في كلّ شيء، وسعي بعض الجماعات إلى فرض نظام حكم ثيوقراطيّ، يسيطر عليه رجال دين يحكمون باسم الله.
يسعى المؤلّف إلى رصد الصّراع التاريخيّ بين ما هو لاهوتي وما هو سياسيّ، بين ما هو روحيّ وما هو أرضيّ، وعنده أنّ اللاهوت السياسيّ ليس محاولة للاشتغال بالسياسة، فهو من هذه النّاحية أقرب إلى الفلسفة السياسيّة، فكثير من الفلاسفة السياسيّين أبعد ما يكونون من ممارسة السياسة، مع أنها موضوع دراستهم، وفي المقابل، نجد الكثير من السياسيّين الحقيقيّين الّذين لم يتعاطوا دراسة السياسة كعلمٍ نظريّ.
ينطلق المؤلّف من فكرة وجود الاختلافات، وعدم إنكار تلك الحقيقة، لكنّه يرى أنَّ علينا النّظر إلى خبرة الشّعوب الأخرى، حتى لا نسقط في الأخطاء عينها الّتي وقعوا فيها، وأيضاً إن كنّا بصدد تطوير لاهوتٍ جديد، يناسب عالمنا العربيّ المعاصر، توجب علينا النّظر في ما وصل إليه علماء لاهوت وفلاسفة سابقون، حتى يصبح بناء صرح لاهوت جديد متيناً وعلميّاً.
كيف يعرف اللاهوت السياسيّ في الغرب؟ يمكن القول إنّه تيّار لبعض اللاهوتيّين الّذين يشرحون رسالة الإنجيل في خدمة الإنسان، بمعنى أنّ السّبت من أجل الإنسان، وليس العكس، وذلك من خلال المعايير الّتي تقدّمها النظريات السياسية الحديثة.
ليس هذا فحسب، بل إنّ هؤلاء يستخلصون، المضمون السياسيّ للكتاب المقدّس، ليكون حاضراً في ضمير المؤمنين عند اختيار توجّهاتهم وأنشطتهم السياسيّة الاجتماعيّة. ففي البلدان التي يستطيع الإنسان فيها أن يقرّر مصيره بنفسه من طريق السياسة الديمقراطيّة، يبدو الإيمان كأن لا علاقة له بالواقع، والسّؤال في مجتمعٍ كهذا في الغرب مثلاً: ما فائدة الإيمان في مجتمعنا؟
يشير المؤلِّف إلى قراءات بعض علماء اللاهوت السياسيّ الّذين يجذِّرون لحركات سياسيَّة واجتماعيَّة على ضوء الإنجيل نفسه، ويرون فيه نصّاً ثوريّاً، يسعى إلى تأسيس عالمٍ لا وجود فيه للطّبقات الاجتماعيَّة، أو الاستغلال، عالمٍ خالٍ من الفقر والقهر، والعنف وغياب العدالة.
أن يكون المرء مسيحيّاً في هذا المجتمع، يعني أن يلتزم ويشارك في النِّضال ضدّ الظّلم والاستبداد السياسيّ، والقهر الاجتماعيّ للمستضعفين في الأرض، فالمشاركة السياسيَّة الفعَّالة، لتحقيق هذا المجتمع صورة أخرى، لتضامن الكنيسة مع البشريَّة جمعاء، وتعبير ملموس عن الإيمان بإلهٍ عادلٍ وصالح.
ماذا عن اللاهوت السياسيّ عند الألماني «يوهان باتست متس» في شكلٍ خاصّ؟ يعتبر الكاتب أنّ الرّجل هو المرتكز والنّموذج لهذا اللاهوت السياسيّ الحديث. لقد صاغ «متس» لاهوته في وقتٍ دُعي المجمع المسكوني الفاتيكاني إلى تأوين كلمة الله، بمعنى قراءة النّصّ المقدس بطريقة تناسب الواقع الّذي يعيش فيه الإنسان اليوم، وجعله نصّاً «آنيّاً»، فالحدث الماضي يصبح حاضراً الآن، ومعيشاً بطريقةٍ تناسب اللّحظة والزّمن الحاضرين، تأوين من آنTo Actualize بالإنكليزيَّة، وهنا يكمن التحدّي أمام اللاهوتيّين في ربط إيمانهم بعصرهم، والحيلولة دون أن يصبح الإيمان أمراً لا علاقة له بالواقع.
هل لعبت كارثة «أوشفيتس» دوراً خاصّاً في نشوء وارتقاء اللاهوت السياسيّ الغربيّ، بنوعٍ خاصّ في النصف الثاني من القرن المنصرم؟ وقد بات السّؤال في أوروبّا لاهوتيّاً: «كيف نفكّر في الله بعد المحرقة؟». يحاول «متس» داخل هذا السّياق التاريخيّ البحث عن لاهوت سياسيّ جديد، لاهوتٍ من أجل العالم المعاصر، لا ينفصل عن واقعة الاجتماعيّ والسياسيّ، ويسعى «متس» أيضاً من خلال كارثة أوشفيتس إلى أن يبرز أسوأ ما يمكن أن يتعرَّض له الإنسان من المعاناة والألم، وأن يغيّر ذلك نظرته إلى اللاهوت جذريّاً، طارحاً تساؤلات لاهوتيّة جديدة وطريقة جديدة لصناعة اللاهوت.
لاهوت «متس» السياسيّ لاهوت يصغي إلى صراخ الضّحايا، ويحاول إنتاج فكرٍ لاهوتيٍ لا يساهم، ولو بطريقةٍ غير مباشرة، في حدوث مآسي ضدّ شعبٍ أو فئةٍ بعينها.
يطرح المؤلِّف سؤالاً استشرافيّاً جديراً بالتأمّل بملء العقلانيَّة والموضوعيَّة: كيف يمكن استخدام أفكار اللاهوتي الألماني «متس» وتطبيقه على الوضع الَّذي يعيش فيه المسيحيّون والمسلمون من عرب فلسطين؟ هل يمكن استخدام أفكار «متس» في شأن «أوشفيتس» داخل مكانٍ يتعذّب فيه المسيحيّون والمسلمون ويغتالهم بعض النّاجين من «أوشفيتس» بأنفسهم أو من طريق نسلهم؟
على أنَّ المفارقة أنَّ «متس» لم يطبّق وجهة نظره على شعوبٍ أخرى، على رغم أنّه يبيّن صراحةً أنَّ أوشفيتس تلخّص في ذاتها كلّ المذابح التي ارتكبت عبر التّاريخ... هل من جديد يمكن لأطروحات لاهوت سياسيّ معاصر أن تمدّنا بها؟
يبهج العقل والقلب أن تكون هناك عقول مسيحيّة عربيّة شابّة مثل الراهب جون جرجس تقترب بالنّقد من مساحاتٍ كانت تشكّل من جانب طوطمات، وقد وجّه سهام نقده إلى الازدواجيّة الغربيّة العتيدة، بمن في ذلك بعض اللاهوتيّين الغربيّين.
يؤكّد صاحب الكتاب أنّ الغرب في محاولاته ردّ الاعتبار لليهود بسبب ما ارتكبه ضدّهم من ظلم في بعض الدّول الأوروبيّة، قد قام بذلك على حساب شعب فلسطين، وعلى أرضهم، وهو بالتّالي أراد إصلاح ظلمٍ بظلمٍ آخر.
والأبعد من ذلك، عمل بعض اللاهوتيّين مثل: «فرانتس فوستر» ومارسيل دوبوا، على إعطاء شرعيّة لاهوتيّة وكتابيّة لذلك الظّلم المرتكب ضدّ شعب فلسطين، بدلاً من أن يكون تفكيرهم حول كلمة الله مساعداً لهم في تصحيح تفسيراتهم، وأن يروا في تلك الكلمة نبع حياة لجميع البشر.
نتيجةً لذلك، وبالطّبع لأسبابٍ أخرى أكثر من ذلك، يعاني الفلسطينيّون من احتلال أرضهم وأرض أجدادهم، والأبعد من ذلك، يتألم المسيحيّون من التّفسيرات الخاطئة الّتي يقوم بها بعض اللاهوتيّين.
وتعليق..
إنّ الحديث عن العلاقة بين اللاهوت بكلِّ تصوّراته، والسياسة الّتي تتوخَّى لغة الحسابات والمصالح، تجعلنا نطلّ من هذا المقال على مسألة تدخّل الدّين في السياسة، ومعنى السياسة في حياة النّاس.
ففي معرض تعليقه على هذه النّقطة، وفي سياقٍ متّصل، يقول سماحة المرجع السيّد فضل الله(رض):
"فإنّ تدخّل رجل الدّين ـ الذي لا يعيش الدّين في نفسه ـ في السياسة، يفسد السياسة، أمّا حول المبدأ، فلنطرح على أنفسنا سؤالاً: لماذا السياسة؟ والجواب الطبيعيّ: من أجل تدبير شؤون النّاس، حتى نستطيع أن نعطي المواطن حياةً عزيزةً كريمةً عادلةً مستقرّة، يعيش فيها إنسانيّته بطريقةٍ منفتحةٍ على العالم.. لماذا السياسة؟ من أجل أن يكون هناك عدل في القانون في حكم الحاكم للنّاس.. ولماذا الدّين؟ لأنّنا ننطلق من آيةٍ قرآنيّة كريمة تقول: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}، ومعناها ليقوم النّاس بالعدل، أي أنّ الدّين كلّه هو فريضة عدل. وعلى ضوء هذا، فإنّ السياسة بمعناها الإنسانيّ هي دين، والدّين بمعناه الإنسانيّ الاجتماعيّ هو سياسة.
أمّا إذا أردنا بالسياسة أسلوب اللّفّ والدّوران، واللّعب على غرائز النّاس، ومحاولة إحراق البلد على أساس طمعٍ هنا وطموحٍ هناك، فهذه ليست سياسة، وليست ديناً، هذه وحشيّة قد تعطي لنفسها معنى الإنسانيّة، لذلك نحن في الوقت الّذي نؤكّد أنّ من حقّ الدّين أن يحرّك القيمة في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي انطلاقاً من قيم الإنسان، لأنّ من حقّ السياسة أن تمارس حركتها في تفعيل إنسانيّة الإنسان في كلّ ما يعيشه الإنسان في حياته العامّة، نؤكّد أيضاً حقيقة مفادها أنّه ليس من حقّ رجل الدّين أن يستغلّ موقعه ليفرض رأيه السياسي على النّاس ليعطيه قداسةً لا يملكها، لأنّ رأيه السياسي قد يكون خطأً وقد يكون صواباً، وعليه أن يعطي النّاس الحرية، كلّ الحرية، ليناقشوا رأيه، فإن كان خطأً رفضوه، وعليه أن يقتنع عندما يكتشف ذلك، وإذا كان صواباً أخذوه، ولذلك المسألة هي ليست مسألة تدخّل الدّين في السياسة، ولكن المسألة هي أن بعض رجال الدين يعطون آراءهم السياسية والثقافية قداسةً لا يملكونها، فحتى في الدين لا يملكون الحقيقة المطلقة، هم يعطون وجهة نظر، وإذا كنا نقول ذلك بالنسبة إلى رجال الدّين، فإنّنا نؤكّد ذلك بالنّسبة إلى رجال المال، أو رجال السّلطة، أو رجال القوّة المسلّحة. إنّ على كل إنسان أن لا يستخدم ما يملك من قوّة لفرض رأيه على الواقع، بل إنّ الواقع هو ملك كلّ النّاس الّذين يعيشونه، وعلينا أن نعطيهم حرية الحركة في قبول ما يرونه صائباً أو رفض ما لا يرونه كذلك.
إني أتصوّر أنّنا لا نملك سياسة، نحن نملك اللّعبة، وهناك فرق بين أن يلعب الإنسان وبين أن يمارس السياسة، إنّ اللّعبة قد تتمثّل في الكرة الّتي قد تكون الوطن، وقد تكون المصير، وقد تكون المستقبل؛ كرة تقذفها الأقدام ليسجّل كلّ فريقٍ نقطةً على الفريق الآخر، ليأخذ الجائزة من أيّ فريقٍ يصنع اللّعبة، وقد يكون فريقاً داخليّاً توجّهه الأطماع، أو فريقاً خارجيّاً. لذلك هناك لعبة، ولعلّ الكثيرين يستهلكون مصطلح اللّعبة السياسيّة، ونحن نعتبر أنّ أيّ شيءٍ يدخل في دائرة اللّعب لن يكون إنسانيّاً".[المصدر: حوار مع مجلَّة بروفايل نيوز، العام 2002].
[مصدر المقال: جريدة الحياة اللّندنيّة، بتعليقٍ من جريدة بيّنات].