مقال..
كان يقود سيّارته حين رنّ هاتفه، من مكاني في المقعد الخلفيّ، سمعته يقول إنّه سوف يبذل مجهوده لإيجاد المرأة المطلوبة. أنهى الاتّصال، ركّب رقماً، وحين ردّ المتّصل به، قال:
"مرحبا، لقد اتّصلوا بي من الحزب، يبحثون عن امرأة ليتمّ ترشيحها في منطقة أكدال الرّباط، اللائحة المقدّمة تضمّ 23 اسماً، ليس بينهم سوى ثلاث نساء". يصمت قليلاً ثم يضيف: "رجاءً، ابحث عن مرشّحة لنضيفها إلى اللائحة، طبيبة أو أستاذة جامعيّة أو أيّا كانت".
أتابع الاتّصال باهتمام، وأنتظر أن يأتي فيه على ذكر شيءٍ يحيل على أنّه من الشّروط الواجب توفّرها في المرأة المبحوث عنها أن تكون راغبةً في الترشّح، وليس أن تكون مجرّد شخص يقدَّم له طبق من ذهب اسمه"الكوتا النسائيّة"، لكنّ صديقي ينهي الاتّصال دون ذكر ما كنت أنتظره، بل يلتفت إلى صديقنا الجالس على يمينه، ويقول له ممازحاً:
"هل تعرف امرأةً تقطن في أكدال يمكن ترشيحها على أن تكون جميلة؟". ابتسم صديقنا والتزم الصّمت، لكنّ عقلي لم يهدأ من التأمّل في "مهزلة الكوتا"، وأنا أتابع انتخابات 2015، وأتذكّر ما كتبه يوماً عالم الاجتماع الأمريكي"جون واتيربوري" عن عمليّة الانتخابات في المغرب، وكيف أنها تعتمد على "شبكة العلاقات الزبونيّة"، وأنّ عوامل الفقر والأميّة والقبيلة عناصر أساسيّة في العمليّة الانتخابيّة في المغرب.
في ظلّ هكذا عوامل سوسيو سياسيّة، هل رفع كوتا نسائيّة من 12% إلى 27 % كاف لتقوية التّمثيل النّسائي في الانتخابات؟
أشارك تساؤلي مع صديق تقدّمي تمرّس في شؤون السياسة، ويجيب قائلاً:
"عالم الانتخابات في المغرب يمكن وصفه بأنّه عالم ذكوريّ، عالم جنسانيّ، ودخول المرأة إلى مغماره ليس سهلاً، حتى لو كانت الكوتا تقدّم لتشجيعها على الانخراط فيه".
أستفهم أكثر منه، فيشرح قائلاً: "في المغرب، عدّة عوامل لا تساعد على إيجاد مرشّحات بسهولة، أو نساء يتشجّعن على خوض غمار الانتخابات. العمليّة الانتخابيّة ليست موسميّة، ولا رهينة اللَّحظة، فهي تحتاج إلى التزامٍ سياسيّ، واحتكاكٍ متواصلٍ مع النَّاس، وحضورٍ في الميدان، وخصوصاً في الانتخابات الجماعيّة، وتفرض إيقاعاً معيَّناً في الحياة لا يمكن للمرأة أن توفّره دوماً، مثل طول النفس، والخروج ليلاً، وقضاء أغراض النّاس في أيّ وقت.. مثل هذه الأشياء هي التي تجعل الناس يرغبون في تشجيع مرشّح، وليس حنكته أو كفاءته السياسية أو جنسه".
يرى صديقي أنَّ الكوتا النسائيّة عمليّة مستحدثة في التّاريخ السياسي لبلدٍ مثل المغرب، حكمته لمدّة طويلة موازين القبيلة والمصالح وليس الكفاءة السياسيّة، وأنّ الترشيح لا زال يتحكّم فيه ما سماهم بـ"الكائنات الانتخابيّة"، وهم أولئك الأشخاص الّذين خبروا الميدان، وحافظوا على تواصلهم مع النّاس في دوائرهم الانتخابيّة، وقدّموا لهم خدمات سيستردّون مقابلها أصواتاً في الانتخابات.
المسألة ليست مسألة تخصيص كوتا فقط، بل هي مسألة تغيير عقليّات وثقافة سوسيو سياسيّة اعتادت ترشيح الذّكر، ولم تتعوّد على ترشيح الأنثى. هذا يفتح الباب أمام ترشيح نساء لا علاقة لهنّ بالعمل السياسيّ، فقط لأنّ الحزب، وبموجب دستور 2011، بات مجبراً على تقديم لائحة نسائيّة وأخرى للشّباب، وليس لأنّ التحوّل المجتمعيّ هو من يفرض وجود التمثيليّة النسائيّة، لنقع في تمثيليّة نسائيّة شكليّة قد تنفر المصوّت ضدّ التواجد النسائي في المجال السياسي.
لكنّ صديقي التقدّمي يرى أنّ هذه الصعوبات في الترشيح لا تواجه الأحزاب في ترشيح النّساء فقط، بل أحياناً كثيرة يصعب على أحزاب معيّنة لا حضور لها قويّ في مناطق بذاتها، مثل البوادي، إيجاد مرشّحين لوضعهم في لائحتها، حتى وهي تعرف أنهم لن يحصلوا على أصوات، فتضطرّ بعض الأحزاب إلى اللّجوء إلى ما يعرف بـ"الترشيح النضالي" الّذي "يهب" صورته واسمه للائحة المرشّحين، حتى يوظّفها الحزب في حملته الانتخابيّة .هو منطق "السياسي الدّيليفري" إذاً، والّذي تفرضه قواعد لعبة سياسيّة، كلّ همّها أن تحافظ على الوضع "المستقرّ" كما هو عليه، وهنا، ليس للمواطن أيّ مجالٍ ليعيش دور الضّحيَّة، ما دام لا يزال يعتبر أنّ أفضل مشاركة في السياسة، هي "مقاطعة" السياسة.
وتعليق..
إنَّ منح صوتنا الانتخابي لا بدَّ من أن ينطلق من وعيٍ ومسؤوليَّة، لأنّنا بذلك نمنح ثقتنا لممثّلينا الّذين يشرّعون القوانين، ويسهرون على تطبيقها. لذا، فإنّ صوتنا أمانة لا بدّ من حفظها، وعلينا التأكّد من أنّه يذهب إلى من هم أهل لذلك، كما علينا أن نبتعد عن كلّ الوسائل الملتوية الّتي تحاول استثمار صوتنا لمصلحتها، فهذا جهل محض يتقرّر عليه مصيرنا ومصير أولادنا، فينبغي التنبّه لكلّ ذلك.
وفيما يتعلّق بموضوع الانتخابات، كان سماحة المرجع السيّد فضل الله(رض) قد أجاب عن مجموعةٍ من الأسئلة المتعلقّة بالموضوع، ومنها:
"ـ هل يجوز للمرشّح أن يُحرِّض النَّاخبين على انتخابه بواسطة إغراءات وأساليب ماديّة وخدماتيّة؟ وما حكم من يُدلي بصوته لمثل هؤلاء؟
ـ لا يجوز للنَّاس الذين يتعرَّضون لمثل هذا الإغراء أن يستسلموا له، إذا لَم تكن لهم قناعة بهذا الشَّخص، لأنَّ مجرَّد اقتناع المرشَّح بنفسه لا يفرض اقتناع الآخرين به، لأنَّ النَّاخب لا بُدَّ من أن يدرس المسألة في نطاق مسؤوليّته، بعيداً عن وسائل الإغراء التي تُقدَّم إليه بما ينفعه ماديّاً أو معنويّاً، بل يجب أن يُفكِّر هل إنَّ هذا المرشَّح يملك الكفاءة التي يستطيع من خلالها أن يملك فيها شرعيّة تسلّم هذا الموقع أم لا، فإذا كان النَّاخب يجد في هذا الشَّخص الكفاءة، فلا مشكلة أن يتقبّل ما يُعطيه إيّاه وما يخدمه به، وإن كنَّا لا نُرجِّح له ذلك، بل قد لا يجوز في بعض الحالات بلحاظ بعض الاعتبارات. أمَّا إذا لَم يجد فيه الكفاءة، فلا يجوز له أن ينتخبه تحت تأثير الإغراء، كما لا يجوز له أن يأخذ هذا المال، إذا عرف من نفسه أنَّ المرشَّح قد بذل المال له من أجل أن ينتخبه، وهو يعرف أنَّه سوف لن ينتخبه في هذا المجال، لأنَّه يكون آكلاً للمال الباطل.
أمَّا بالنِّسبة إلى المرشَّح الذي يريد من النَّاس أن ينتخبوه، فإنَّنا ننصحه بالابتعاد عن مثل هذه الإغراءات، لما تنطوي عليه من أساليب غير صحيحة للوصول إلى أهدافه، حتَّى وإن كانت سامية من وجهة نظره، بل يجب عليه أن يطرح نفسه بالأساليب الصَّحيحة، من خلال طرح برنامجه السِّياسي وأهدافه ومبادئه الّتي يستطيع من خلالها إقناع الآخرين به وببرنامجه. أمَّا اللّجوء إلى المال والخدمات، فهو أسلوب غير صحيح، على الرَّغم من أنَّنا لا نجد مانعاً شرعيّاً في إعطاء المال ومساعدة النَّاس، وخصوصاً الفقراء والمحتاجين منهم وقضاء حوائجهم، وإن أدَّى ذلك إلى نتيجةٍ يستفيد منها المرشَّح، راجين من ذلك أن يستمرّ هذا المرشَّح في مساعدة النَّاس لما بعد الانتخابات، سواء فاز أو لَم يفز، كلّ هذا شريطة أن يجد هذا المرشَّح في نفسه الأهليَّة القانونيَّة والشَّرعيَّة، والقدرة على إرضاء الله في تسلّمه لهذا المنصب.
ـ ألا يعتبر إعطاء المال هذا بمثابةِ رشوةٍ تخلّ بالنِّظام العام؟
ـ نحن لا نريد للنَّاس أن يعتادوا أن يأخذوا المال من أجل الوقوف مع الحقّ، لأنَّ من يتعوَّد على أخذ المال ليقول كلمة الحقّ، سوف ينجرّ لأن يأخذ المال للوقوف مع الباطل. ولكن من ناحية الحكم الفقهيّ، إذا كان المرشّح يملك الكفاءة ويُحبّ أن يحمي النَّاس من الخضوع لإغراء أُناسٍ آخرين، فلا يحرم عليه بذل المال لمؤيّديه ليقوّي علاقتهم به، وكان المال حلالاً وكان انتخابه حلالاً، فليست هناك مشكلة شرعيَّة".[كتاب فقه الحياة، ص 150-151].
[مصدر المقال: إذاعة هولّندا العالميَّة، بتعليق من موقع بيّنات].