مقال..

... كان لـ «حرب الأقوال» - على حدّ تعبير طرابيشي - وقع أشدّ خطورة، ولا سيّما ما يتعلق بالفتاوى ومواقف المذاهب من بعضها البعض لدى السنة والشيعة على حدّ سواء. يقول أحمد بن حنبل في «كتاب السنة»: «ليست الرافضة من الإسلام في شيء». وروي على لسان علي بن عبد الصّمد أنّه قال: «سألت أحمد بن حنبل عن جارٍ لنا رافضي يسلّم عليّ أردُّ عليه؟ قال: لا». وسيحكم الإمام الإسفراييني في «التبصير في الدين، وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين»، بخروج عموم الشيعة من الإسلام، بقوله: «إنّ جميع فرق الإماميّة... ليسوا على شيء من الدّين، ولا مزيد على هذا النّوع من الكفر». وفي كتابه «منهاج السنة النبوية»، أفتى ابن تيمية في الإمامية بأنهم «شرّ من عامّة أهل الأهواء وأحقّ بالقتال من الخوارج»، لأنه إذا «كان الخروج من الدّين والإسلام أنواعاً مختلفة، فإنّ خروج الرافضة ومروقهم أعظم بكثير». وأفتى الميرزا جواد التبريزي في صراط النجاة: «الناصب هو الذي يظهر العداوة لأهل البيت(ع)، ولا حرمة لدمه، وأمّا سابُّ النبيّ والإمام (صلوات الله عليهم)، فقتله واجب مع الأمن من الضّرر». (راجع: العلمانيّة كإشكاليّة إسلاميّة ـ إسلاميّة، ص 34-40).
وفي كتاب «الحدائق النّاضرة في أحكام العترة الطّاهرة»، يقول المحقِّق البحراني: «ومن أظهر ما يدلّ على ما ذكرناه، ما رواه جملة من المشايخ عن الصّادق(ع)، قال: «الناصبي شرّ من اليهودي. فقيل له: وكيف يا بن رسول الله؟ قال إنّ الناصبي يمنع لطف الإمامة، وهو عام، واليهودي لطف النبوّة، وهو خاصّ، «فإنّ المراد بالناصبي هنا مطلق من أنكر الإمامة، كما ينادي به قوله: «يمنع لطف الإمامة». وقد جعله(ع) شراً من اليهودي الذي هو من جملة الكفر الحقيقي بلا خلاف». وفي كتاب «الكافي» (الأصول) «باب فرض طاعة الأئمّة»، يورد الشّيخ محمد بن يعقوب الكليني: «علي بن إبراهيم، عن صالح بن السّندي، عن جعفر بن بشير، عن أبي سلمة عن أبي عبدالله(ع) قال: سمعته يقول: نحن الّذين فرض الله طاعتنا، لا يسع النّاس إلا معرفتنا، ولا يعذر الناس بجهالتنا، من عرفنا كان مؤمناً، ومن أنكرنا كان كافراً، ومن لم يعرفنا ولم ينكرنا كان ضالاً، حتى يرجع إلى الهدى الذي افترض الله عليه من طاعتنا الواجبة، فإن يمت على ضلالته، يفعل الله به ما يشاء».
في بدايات القرن الحادي والعشرين، أدّى الاحتداد السني ـ الشيعي، وخصوصاً بعد الاحتلال الأميركي للعراق (2003)، إلى تفاقم النّزعة الطائفيّة، وزيادة منسوب «الاستقطاب» بين المسلمين؛ استقطاب لا ينفصل عمَّا هو جيو ـ استراتيجي؛ فالصّدام السني ـ الشيعي، الّذي يتغذّى من الصّراع الإقليمي على النفوذ، ومن الحروب الجديدة، ومن فتاوى التكفير في بطون كتب التراث، آل إلى تعاظم المسألة الطائفيّة بمركّباتها الاستبدادية والدينية، على وقع انهيار الدّول والمجتمعات والحضارة، وإعادة تشكيل هويّات دينيّة أشدّ تطرّفاً، تتحصن خلفها الأنظمة السياسية التي توظّف العصب المذهبي للحفاظ على سلطتها وامتيازاتها، وتستعين بالجماعات المسلَّحة المشاركة في الصّراعات القاتلة. لقد تركت الحروب الدّائرة في العالم العربيّ، أقله منذ حرب الخليج الأولى، وحتى الحرب الدائرة الآن في سوريا، عدداً كبيراً من الضحايا بين المسلمين، صحيح أنها مرتبطة بأسباب سياسية، لكنّنا لا يمكن أن نغيِّب المعطى الديني، توظيفاً وممارسة، ما أضفى عليها طابعاً دينياً، فارتكبت المجازر تحت رايات المقدَّس السني والشيعي.
الطائفية في الميديا الجديدة
في دراسة حملت عنوان «حروب تويتر الطائفية: الصراع والتعاون السني ـ الشيعي في العصر الرقمي» (مركز كارنيغي للشرق الأوسط، 2015) تلاحظ الباحثة الأميركيّة ألكساندرا سيغل، «أنّ اللّغة المعادية للشيعة أكثر شيوعاً على الإنترنت مقارنةً مع اللغة المعادية للسنّة، أو المناهضة للطائفيّة (...)، وفي السنوات التي تلت تصاعد الحرب الأهلية السوريّة، تكرّر استخدام ستة مصطلحات رئيسة مهينة، للحطّ من قدر المسلمين الشيعة على الإنترنت: رافضة، وحزب الشيطان، وحزب اللات، ومجوس، ونصيرية وصفوية (...) وفي الوقت نفسه، أصبح العديد من الافتراءات أكثر شيوعاً لوصف المسلمين السنّة في الخطاب الطائفي: وهابي، وتكفيري، وناصبي، وأموي». والحال إلامَ يؤشّر ذلك؟ إنَّ تراكم الفتن والإقصاء الدّيني والسياسي وتكفير المسلم الآخر، عزّز الطائفية لدى الجمهور - المنقسم على وقع التّنافس الإقليمي - فتركت تأثيراً لافتاً في الميديا الجديدة، ولا سيما لدى بعض الفئات الشبابية الأكثر استخداماً لها.
ما زال الموروث الفقهي/ التكفيري بين السنّة والشيعة حاضراً في مجال الوعي العامّ، وهو يتصاعد تصاعداً هستيريّاً، ما يجعل مواجهة المسألة الطائفيّة أمراً صعباً وملحّاً في آن. هذه المواجهة تبدأ بإصلاح التعليم الدّيني وبناء دولة المواطنين، وتكريس مساحات التعايش بين المسلمين، والكفّ عن استنزاف الدين في الصراعات الإقليمية والسياسية المحلية. والأجدى للخطاب الديني الرسمي الخروج عن علم البدع، والتّأسيس لفقه إسلامي/ حداثي، ينظر إلى المكوِّنات الدينية كجزء أصيل من حركية الإسلام وثرائه.
وتعليق..
للأسف، لا يزال العامل المذهبي عائقاً أمام انفتاح المسلمين على بعضهم البعض، والأخذ بروحيّة الإسلام الداعية إلى تكريس عرى الوحدة، والنّظر إلى المصلحة الإسلاميّة العليا، بعيداً عن لغة العصبيّة المذهبيّة والطائفيّة الضيّقة التي تشلّ الإسلام وتحبسه في زنازين تاريخيّة وعقيديّة ضيّقة بعيدة عن روحه وغاياته.
هذا وتحدَّث المرجع السيّد محمد حسين فضل الله عن العامل المذهبي بين المسلمين، وضرورة إنتاج ذهنيّة إسلاميّة جديدة، بقوله:
"إنّ المشكلة عند الكثيرين من المسلمين ـ بمن فيهم المثقّفون والعلماء ـ أنّهم لا يقرأون القرآن في المنهج والأسلوب والعلاقات. وهذا ما يجعل القلب في سواد دائم، وتشنّج متواصل، في مواجهة حالة الخلاف المذهبي والاجتهادي مع الآخر، بالدّرجة التي قد تصل إلى المنطق اليهودي الذي تحدَّث عن المقارنة بين المشركين والمسلمين في حديث الله عن ذلك، في قوله تعالى: {هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً}[النّساء: 51].
إنّنا نعتقد أنّ علينا أن نخطّط ـ على المدى البعيد ـ لبرنامج ثقافي تربوي يعمل على أساس إنتاج الذهنية الإسلامية التي يتحسَّس فيها المسلم إسلامه قبل أن يتحسَّس فيها مذهبه، بحيث يتصوَّر الإسلام في مذهبه، لتكون الروحيَّة الإسلاميَّة هي الّتي تحدِّد له روحيّة المذهب، كما يعمل على أساس تركيز الذّهنيّة الموضوعيّة العقلانيّة البعيدة عن العاطفة والانفعال. وهذا ما يمكن لنا أن نصل من خلاله إلى بعض النتائج الإيجابيَّة في هذا المجال".[كتاب: أحاديث في قضايا الاختلاف والوحدة/ ص 205].
المقال للكاتبة ريتا فرج، جريدة السّفير اللّبنانية، بتعليق من موقع بيّنات.