مقال..
لا يكاد الناس يسمعون كلمة الجهاد، حتَّى تتبادر إلى أذهانهم صور القتال والحرب واستعمال العنف، حتَّى أصبحت كلمة الجهاد تُدخل الرُّعب والفزع إلى القلوب، دون إدراك لمعناها الحقيقي الشامل.
إن الجهاد في الإسلام هو بذل الجهد الممكن والطّاقة في سبيل أمر من الأمور؛ وهو بهذا المعنى يشمل ثلاثة أنواع من الجهاد: الجهاد ليس لنشر الدّين، بل لنشر اللا إكراه، وكسر شكيمة المستبدّين؛ إنّه أشبه بتدخّل الأمم المتحدة لحماية المستضعفين من فراعنة العصر.
ردّ الاعتداء، وهو جهاد الدفع ويكون بالنفس والمال وبكلِّ ما يملك من طاقة، وهو فرض كفاية، إذا قام به القادرون والمؤهّلون له، أجزأ عن البقيّة وعن أهل الأعذار الَّذين لا يستطيعون أن يجاهدوا.. جهاد آخر هو جهاد النفس والهوى، وهو الأعظم، وهذا الجهاد فرض عَيْن على كلِّ مسلم، وقد عُدَّ جهاداً أعظم، لأنه جهاد مستمرٌّ دائم.
أخرج البيهقي وغيره عن جابر (رضي الله عنه)، قال: "قَدِمَ على رسول الله(ص) قوم غزاة، فقال: قدمتم خير مقدم، قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، قيل: وما الجهاد الأكبر؟ قال: مجاهدة العبد هواه".
الثالث وهو الأهمّ، هو الجهاد بالقرآن، وهو الجهاد الكبير {وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً}، هو جهاد الدّعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ومقارعة الجاهلين والمعاندين بالحجج والبراهين من حنايا القرآن، في سبيل إنارة العقول، وفتح مغاليق القلوب، بغاية الهداية ومزيد من التعارف بين الناس على قيم مشتركة بينهم {تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}. وعلى هذا، فشتَّى أنواع سعي المؤمن في سبيل الوصول إلى المستوى الأفضل، يكون جهاداً إذا قصد به وجه الله، وسواء أكان في تهذيب نفسه وسلوكه، أم في حياته المعاشية، أم في علاقاته مع مجتمعه، ومن ثمَّ مع الأسرة الدوليّة. وهنا يكون الخلاص متعلّقاً بتطبيق ما تؤمن به من مبادئ أخلاقيّة، أكثر من إعلان هوية المبدأ نفسه، وعنوان ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ}، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}. فالرّسالات السماويّة وضعت خطوطاً عامّة للنّاس، وتركت أمر التفاصيل على هدي تلك الخطوط بما يناسب زمانهم .
الجهاد ليس لنشر الدين، بل لنشر اللا إكراه وكسر شكيمة المستبدّين، إنّه أشبه بتدخل الأمم المتحدة لحماية المستضعفين من فراعنة العصر {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا}.
ليست المشكلة في الجهاد القتالي بقدر ما هي في عقلية المجاهد. لقد علم الله أنَّ أخطر ما في الجهاد، هو أن يتكلّم المجاهد باسم الله، وأن يجعل ذلك سبباً للوصاية على النّاس، كقولهم اليوم إنّ الكلام لأهل الخنادق لا لنازلي الفنادق، ويقصدون السياسيّين العاملين على الحلول السياسية، وبالتّالي، فهم يتصدّون للتفكير عن الناس بعد تصنيفهم على أنهم ضالّون/ رعاع / كفرة / جاهلون... إلخ، بينما الآيات تبيّن بوضوح أنّه حتى الرّسول(ص)، ليس له أن يمارس الوصاية على الناس، وعليه أن يترك حسابهم لربهم... {وَلَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ}، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ}، {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ}، {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً}... والآيات كثيرة في ذلك.
الجهاد هو لرفع الوصاية الفكريّة، حتى يتمكن الإنسان من حمل أمانة الاختيار دون منغّصات وإرهاب، والهدف الأساس، وربما الوحيد للجهاد القتالي، هو إقامة العد، وبشكل أدقّ المساواة {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}. والقسط أمر إجرائيّ، لا يأخذ عقيدة أو فكر صاحب القضيّة في الحسبان، بل محلّه هو القانون الذي يطبَّق على الجميع. وإذا قلنا هدفه {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}، فستكون مرآة ذلك رفع الظّلم، ولا ظلم كالإكراه. لقد أعطى الله الإنسان حريّة الاختيار في الدنيا، وأجّل حسابه في ذلك للآخرة، ويريد الله من المؤمنين أن يجاهدوا للحفاظ على ذلك الحقّ، واحتمال الأمانة أمانة الحريّة، وذلك وفق ميزانٍ دقيقٍ رفعت عليه السّماوات والأرض لا يجوز الطّغيان فيه! {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
وتعليق..
انطلق الجهاد في الإسلام من أجل دفع القهر والظّلم، وتكريس مبادئ العدالة والحريّة، مع مراعاة كلّ الظروف والمعطيات الشرعيّة والإنسانيّة، بحيث يتحوّل الجهاد إلى فعل تغييريّ للواقع نحو الأفضل، بما يرفع من مستوى الفرد والجماعة. وليس الجهاد عنواناً يستغلّه البعض من أجل الظّلم والتشفّي، أو التّكفير والتّفسيق والتّضليل، إذ لا بدّ اليوم من توضيح مفهوم الجهاد، ووضع النقاط على الحروف من قبل المجتهدين والعلماء، منعاً لأيّ التباس وتشويه، ولزيادة الوعي حول الجهاد ومراميه.
وعن الجهاد في الإسلام، وفي سياق متَّصل، يقول سماحة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض):
"... الله تعالى يقول: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}، وهذا هو الجهاد الدّفاعيّ، أي: من قاتلك قاتله، وهكذا قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا}، فإنَّ القتال في الآية إنما شُرِّع دفاعاً عن المستضعفين والمظلومين والمقهورين، وليس عدواناً على النّاس. والجهاد هو حركة وقائيّة أيضاً، وذلك عندما تتوافر المعطيات التي تشير إلى خطر محدق بالمسلمين ودولتهم، فيتحرَّك الجهادُ في سبيل رفع هذا الخطر، وقد قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}.. فتواجه الّذين يريدون أن يخونوك بما عقدت معهم من معاهدات. وهكذا ورد، حول الحريّة الدينيّة لدى الذين ينتمون إلى الإسلام عقيدةً وعملاً، قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ}، في معالجةٍ للوضع الّذي كان يتعرّض له المسلمون في مكّة، من اضطهادٍ وقتلٍ وتشريد، لتحويلهم عن دينهم، وإرجاعهم إلى الشّرك الّذي كانوا عليه.
وبذلك، يكون الجهاد في الإسلام منسجماً مع الحالة الإنسانيّة العامَّة في دفع الأعداء وأخطارهم، وهو بعيد كلّ البعد عن العدوان والظّلم للآخر، حتى لو كان كافراً. وقد نجد في هذا المجال، تصريح القرآن بأنَّ الاختلاف في الدين أو المذهب أو غيره لا يُبرّر القتال، وأنَّ ما يبرّره هو وقوع العدوان والظّلم من الطّرف الآخر، أيّاً كان، فنجد في الدائرة الإسلاميّة الحديث عن قتال المسلمين، يقول تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، فتحدَّث عن البغي في الآية، وهو تعبير آخر عن العدوان. وأمّا خارج الدائرة الإسلاميّة، فقد قال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، فإنّ الآية واضحةٌ في أنَّ الاختلاف في الدين لا يبرّر القتال، إنما يخضع، بحسب منطق الآية، لعدوان الآخرين بالقتال أو بالقهر والظّلم وما إلى ذلك.
على أنّ القرآن صريح في أنّ {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}. لذلك، لم يكن القتال لأجل إدخال الناس في الإسلام، وذلك هو شأن أيّ دين يقوم على العقل والبرهان في بناء العقيدة، مما لا يخضع لأيّ ضغط خارجيّ بعيداً عن الاقتناع الذّاتيّ". [من مقال لسماحته في جريدة السّفير اللبنانيّة، بتاريخ 23/9/2006].
المقال للكاتب رياض درار، موقع إذاعة هولّندا العالميّة، بتصرّف وتعليق من موقع بيّنات.