مقال..
لا شكّ في أنّ الإسلام اليوم لم يعد إسلاماً واحداً، فقد انشطر منذ قرون إلى إسلام سني وآخر شيعي، ثم إلى مئات "الإسلامات". هذا لأنّ الفقهاء - عبر التاريخ - قد اختلفوا في فهم القرآن وأقوال النبيّ إلى مئات الآراء، ومع الزّمن، صارت أقوالهم مقدَّسة لا تقبل التّشكيك، وها نحن اليوم نرى داعش، والقاعدة، والإخوان المسلمين، وحركة أنصار الشّريعة، وهذا ينطبق حتى على الدول، فللسعودية إسلامها، ولماليزيا وشمال أفريقيا إسلامهما، ولإيران ولبنان وبعض مناطق اليمن "إسلاماتها"، عدا عن وجود تيارات إسلاميّة تعتقد بإمكانيّة ربط الإسلام بالديمقراطيّة، وأخرى ترى في الديمقراطيّة كفراً.
وكلّ هذه "الإسلامات" تتصارع إيديولوجيّاً داخل المنطقة الممتدّة من نواكشوط إلى بغداد، مهدِّدةً بخلق حرب طائفيّة مدمّرة، قد تنسف التعايش والتنوّع الحضاري هناك، وقد تمتدّ إلى قارات أخرى بسبب توسّع هجرة المسلمين مؤخَّراً.
نحن بحاجة ماسّة لإعادة قراءة القرآن وأحاديث النبيّ، وفق شروط هذا القرن واحتياجاته، وقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وتتأسّس إعادة القراءة على الآتي:
1ـ إلغاء ما يُعدّ امتيازاً قداسيّاً لأقوال الفقهاء الذين استأثروا لقرون طويلة بمهمة الاجتهاد، وورّثوا الأجيال اللاحقة إرثاً ثقيلاً ينتمي إلى القرون الوسطى، حتى إنّ الفقهاء المعاصرين ظلوا يعتبرونه أرضيةً ينطلقون منها لمعالجة كلّ المستجدّات، فحرّموا كثيراً من الفنون، وصادروا كثيراً من الكتب، وأفتوا بتكفير عدد من الإصلاحيّين، حتى خنقوا الإبداع، وجمّدوا الفكر العربي عند القرن السّابع.
2ـ الاستعانة بالنّخب المثقَّفة، من الشباب والمرأة في عملية إعادة القراءة، لكونهم الفئة الأكبر في الهرم الاجتماعيّ، عن طريق البدء بعقد مناظرات ولقاءات مع كُتّاب ومنظّرين من خلفيّات إسلاميّة، وإشاعة حوار عقلاني يناقش قضايا المسلمين المعاصرة وتطلّعات أبناء هذا الجيل واحتياجاتهم.
3ـ اتّباع شروط المنهج العلميّ في إعادة قراءة الإسلام، وهي قراءة يجب أن تراعي اعتبارات التّاريخ والجغرافيا اللّذين حلّ بهما الإسلام الأوّل.
4ـ مناقشة سؤاليْ الهويّة والأخلاق عند المسلمين، وهل يمكن لمسلم اليوم الانفتاح على الهويّة الكونيّة للإنسانيّة جمعاء، من حيث إنّ جميع البشر متساوون، وأنّ الأديان هي إرثٌ ثقافي إنساني محترم، لكنّها لا يجب أن تهيمن على السياسة.
وتعليق..
تحتاج هذه الطروحات بالفعل إلى مناقشة من قبل المجتهدين وأهل الثّقة من العلماء، إذ يحتاج الواقع إلى قراءات حيويّة وعميقة تلامس روح التّشريع، وتبرز أصالت، وتربطه بقضايا العصر، بغية تحريكها وتوجيهها الوجهة السّليمة، حيث نجد الكثير اليوم من القراءات المشوَّهة والسّطحيّة لكثير من عناوين الإسلام ومفاهيمه، فالإسلام يمتلك في ذاته القدرة المعرفيّة والتشريعيّة على مجاراة الفهم المتجدِّد للإنسان في مدى التّاريخ.
وفي سياقٍ متّص، يقول المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض) عن مهمّات الاجتهاد المعاصر وتجديد التّفكير:
"لعلّ من أولى مهمّات حركة الاجتهاد المعاصر، أن تواجه النّصوص في الكتاب والسنّة مواجهةً مستقلّةً واضحة، تنطلق من الفهم الواعي المستند إلى ثقافة علميّة دقيقة واسعة في المجالات الّتي تتحرّك فيها القواعد اللّغوية والأصوليّة، ومن التركيز على دراسة الأجواء العامّة التي انطلقت فيها..
ثم ملاحظة الظروف الموضوعيّة التي نعيشها، مما أحدث لنا أوضاعاً جديدة في العلاقات العامّة، وفي أساليب الحياة، للتعرّف من خلال ذلك إلى طبيعة الموضوعات التي تتوفر النصوص الشرعية الكفيلة بمنحها الحكم، ليعالجها معالجة واقعيّة، لأنّ الخطأ في فهم الموضوع، يؤدّي بالتالي إلى الخطأ في طرح الحكم، وقد رأينا بعض المجتهدين الذين تحيَّروا في الإفتاء في بعض الموضوعات، نظراً إلى عدم اطّلاعهم على طبيعة الموضوع.
إننا نؤكّد استبعاد القداسة للشخص وللرّأي الفقهيّ من دائرة الاجتهاد، واعتبار الآراء الفقهيّة في أيّ مجال علميّ قابلة للمناقشة، فلا تمنع المصير إلى رأي مخالف، ولا توجب الارتباط برأي موافق، مهما كانت درجة أصحابها من العلم والمعرفة والمركز الرّوحيّ، إلا بمقدار ما يكون للرأي من قوّة الحجّة وسلامة البرهان، لأنَّ إعطاء الآراء القديمة القداسة الّتي لا يدّعيها أصحابها لأنفسهم، يجعلنا نواجه تقليداً فكريّاً باسم الاجتهاد...
إننا نشعر بأنّ الاجتهاد هو مسؤولية المفكّرين المسلمين الملتزمين الذين يعون دور الإسلام في الحياة بشكل جيّد، ما يجعلهم ينظرون إلى خطواته الفكرية والعملية بدقّة ووعي، لتظلّ الصورة الإسلاميّة واضحة في كلّ زمان ومكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها...[الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل، ص 124و 128].
وفي مكان آخر يقول سماحته:
"للقرآن ـ في ثقافتنا الإسلامية ـ دور الأساس، من حيث هو المصدر المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فقد أجمع المسلمون على أنّ التّحريف لم يقترب منه، وإذا كان البعض يتحدّث عن بعض ألوان الزّيادة أو النقصان، انطلاقاً من بعض الأحاديث الّتي لا يثبت سندها أمام النقد، ولا يصمد مضمونها أمام المحاكمة، فإنه لم يستطع أن يفرض رأيه على الواقع القرآني...
وإذا كان للقرآن هذا الدّور الأصيل في ثقافتنا الإسلاميّة، فلا بدَّ من أن يكون هو المصدر الأساس لمفاهيمنا في العقيدة والشّريعة والحياة، لنرجع إليه في كلّ ما اختلفنا فيه، مما اختلفت فيه الآراء والأهواء، بحيث ننفتح عليه في كلّ مرحلة من مراحلنا الثقافيّة الّتي تفرض علينا الكثير من الجدل حول هذا المفهوم الإسلامي أو ذاك، فيما يحكم الوجدان العام للمسلمين في أيّ شأن من شؤون الحياة والإنسان، فلا نلتزم هذا المفهوم من خلال فهم العلماء السّابقين، بل نعمل على تجديد دراسة النصّ القرآني، وخصوصاً في ظلّ المعطيات الفكرية الجديدة التي تطرح أكثر من علامة استفهام، الأمر الّذي يفرض إجابات معاصرة لم يكن للقدماء عهد بها، فربما وجدنا في ظواهره معنىً لم ينتبه إليه السّابقون، وربما كانت اجتهاداتهم في فهم ظواهره منطلقة من ذهنياتهم المليئة بالأعراف العامة التي تحكم منهج التفكير آنذاك، وربما غابت عنهم بعض المقارنات بين آية وآية، أو بين ظاهر وظاهر، فنكتشف شيئاً جديداً لم يكتشفوه، فلا قداسة للقديم من خلال قدمه، فكم ترك الأوّل للآخر!
لذلك، لا بدّ لنا من اعتبار الثقافة القرآنية ثقافةً متحركةً في المسألة الفكرية، بحيث تطلّ على حركة التطوّر المعاصرة في قضاياها وحاجاتها وتعقيداتها، فلا يكون القرآن غريباً عن مواجهتها ومعالجتها ومقاربتها، تماماً كما لو كان القرآن نزل في هذا العصر، لأنّه يجري مجرى الشّمس والقمر، واللّيل والنّهار، كما جاء في أحاديث أهل البيت(ع)، فلا يتجمّد في ظروف الزمان والمكان التي فرضتها أسباب النّزول، لأنها فيما صحّ منها، تمثّل المنطلق لحركة الآية في الواقع، من خلال مضمونها الذي يتجاوز خصوصيّاته، لينفتح على إعطاء القاعدة والمبدأ والخطّ على مدى الزّمان والمكان والناس، ولا يقتصر على المورد الّذي أنزلت فيه الآية، وقد قال الفقهاء إنّ المورد لا يخصّص الوارد...
إنّ حركة الاجتهاد في فهم القرآن تبقى حيّة منفتحة على كلّ جديد، لأنّ النص القرآني لا يمثل ـ في معظم آياته ـ النصّ الصّريح الذي لا يلتقي مع الاحتمال المخالف، بل يمثّل الظهور الذي هو حركة في دائرة الظّنّ الذي يقارب الاحتمال، وليس معنى ذلك في ساحة القطع الذي لا مجال فيه لاحتمال آخر .وفي ضوء ذلك، قد يجد الإنسان الفرصة في فهم الظاهر بما لم يصل إليه الآخرون، وقد يلتقي الباحث المفكّر ببعض الجوانب في هذا النصّ مما لم ينتبه إليه الباحث الآخر الّذي قد يكون نظر في القضيّة من جانب آخر".[الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المسقبل، ص 129 و 130]
[المقال للكاتبة وفاء البوعيسى، موقع إذاعة هولّندا العالميّة، بتعليق من موقع بيّنات].