مقال..
يمتنع كثير من المسلمين عن الترحّم على قتلى الكوارث الطبيعيّة وغيرها، من أهل الملل الأخرى، معتقدين أنّه منهج الإسلام الصّحيح، في فهم مغلوط لرسالة يفترض أنها بعثت بالرحمة للعالمين. وكثيراً ما ينال أحدنا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، السبّ والشّتم والرمي بالجهل، لكونه ترحّم على هؤلاء الضحايا من إخوانه من بني البشر.
وتعقيباً على بعض التعليقات اللاإنسانيّة على كارثة الزلزال الذي ضرب إيطاليا مؤخّراً، وتتكرر دائماً هذه المواقف الجارحة للضمير الحيّ، رغم أنّ الزلازل ظاهرة طبيعيّة، خطوطها وخريطتها معروفة، ومحدّدة جيولوجيا، ولا تحددها ديانة البلد ولا سياساته، ولا خريطة انتشار المعاصي، أو مدى قربك أو بعدك عن الله، ولا يمكن أن تحدث في غير مناطقها المعلومة، وهي سنّة وقانون لله في الأرض، تحدث عليها قبل ملايين السنين من وجودنا، وترصد اليوم في المحيطات والبلاد غير المأهولة؛ فسأحاول الإسهام بما تيسّر في تصحيح هذا المفهوم الذي يسير ضدّ إنسانيّتك، ناهيك بروح رسالتك النبيلة.
المسار الطبيعي للضمير الإنساني أو الفطرة، تجعلك تأسّى وتتألم، بمجرّد أن ترى قتيلاً أو معاناة كائن، إنساناً كان أو حيواناً. لكنّ رجال الدّين علموا الأمّة أن تنتظر وتتريث، حتى تعرف من القتيل؟! وما دينه ومذهبه..؟! فإذا كان مسلماً ترحّموا عليه! لا، لم يعد هذا ممكناً أيضاً عند البعض، بل سينظر الشيعي المتعصّب، إن كان القتيل شيعياً، وينظر السني المتعصّب إن كان الضحيّة سنياً، وكذا الشّأن في كلّ الطوائف. أما إذا كان الضحية "كافراً" كما يصفونه، فقد لُقّنوا الشماتة بهم، والدعاء عليهم بالجحيم. وهكذا تنحصر الرحمة التي بعث بها محمد للعالمين، محاولين جعل كلّ مسلم مشروع إرهابي مع وقف التّنفيذ، إلا من رحم الله، مدنّسين فطرتهم السليمة، وجعلوها موافقة مذاهبهم الحاقدة، وكثيراً ما إذا سألت بعضهم: ما موقفكم من داعش مثلاً؟ سيقولون: تنظيم إرهابي، الإسلام منه بريء! لكنّك إذا أزلت مصطلح داعش، وقمت بتفريغٍ لتركيبته الأيديولوجية على شكل أسئلة لهم: ما حكم هذا، ما حكم كذا؟ ستجد أنهم كلّهم دواعش!! وقد يحظر عليك أن تصف "نلسون منديلا" مثلاً، بأخي وتدعو له، أو لغيره ممن خدموا الإنسانيّة، لكنّهم لا يمانعون بالترحّم على الإرهابي المسلم، ويحكم على مصيره، في فهم مدسوس باسم الولاء والبراء، سنتناوله بالبحث عمّا قريب .
روح الدين الإسلامي تخالف هذا التوجه الذي صدّرت به كلامي تماماً، وهو ما ستكتشفه معي في مقالاتي هذه، فهي تنسجم مع مشاعرك الإنسانيّة، وتجعلها مشاعة، وتثمّنها لتبثّ روح المودّة والإخاء، تجاه شركائك في الأرض، في انسجام تامّ مع سكان السماوات من الملائكة. قال ربّنا :{... وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ}[الشورى: 5)؛ وهذا الاستغفار الملائكي لمن في الأرض عامّة، يمنحك الشعور بمدى روحانية الإسلام، وبعده عن التمييز الديني السلبي، الذي دنّس سماحة الرسائل الربانية، ونجد الآية (75، غافر)، تجعل استغفار حملة العرش للمؤمنين خاصّة؛ وللسخرية، حتى يخرج بعض من شوّهت هذه المفاهيم السامية، في ذهنه، من إشكال في مذهبهم، ادّعى أنّ الآية الأولى منسوخة بآية حملة العرش، كما نقله البغوي في تفسيره للآية، بينما الآيتان مختلفتان؛ إحداهما تعمّ الملائكة وأهل الأرض، والأخرى تخصّ حملة العرش والمؤمنين، وادّعاء النّسخ هنا وهمٌ فاحش، وتعسّف واضح .
المسار الطبيعي للضّمير الإنساني أو الفطرة، تجعلك تأسّى وتتألم، بمجرّد ما ترى قتيلاً أو معاناة كائن، إنساناً كان أو حيواناً. لكنّ رجال الدّين علّموا الأمّة أن تنتظر وتتريّث حتى تعرف من القتيل؟! ما دينه ومذهبه؟..!
لقد تجاوز نبيّنا(ص) هذا الحسّ النبيل بدرجات، حينما استغفر لأشدّ أعدائه محاربةً له ولأصحابه في المدينة، مصداقاً لتعليم الله له، كما في قوله سبحانه: {ولَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(فصّلت: 34)...
وتعليق..
إنَّ الإسلام دين الرّحمة للعالمين جميعاً، وليس لفئة من البشر دون فئة، ولذلك، فإنَّ هذه الرّحمة تطاول كلّ إنسان، مسلماً كان أو غير مسلم، وهو أمر إنسانيّ، يشعر به الإنسان تلقائيّاً تجاه عذابات الآخرين وآلامهم.
أمّا الرّحمة في الآخرة، فتنال من مات على غير دين الشّرك، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}. لكنّ هذا لا يعني نفي الرّحمة في التّعامل الإنسانيّ، فمثلاً، ورد أنَّ هناك أجراً لمن يساعد الإنسان المحتاج حتّى لو لم يكن مسلماً، فقد جاء عنه(ص): "في كلّ كبد حرّى أجر"، وهو ما يعزّز إنسانيّة الإسلام في تعامله مع الآخرين.[المكتب الشّرعي، مؤسّسة العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض)].
[المقال للكاتب المرتضى إعمراشا، موقع إذاعة هولّندا العالميّة، بتصرّف وتعليق من موقع بيّنات].