هلّ علينا هلال شهر شوّال، وبدأت تعود الحياة تدريجيّاً إلى سابق عهدها.
انتهى الشّهر الكريم؛ هذا الموسم العبادي الذي تضمَّن الكثير من الفرص لإصلاح النفس، وتصحيح العلاقة مع كتاب الله، فضلاً عن تعزيز الجانب الرّوحي من خلال الأدعية اليومية والاستغفار وارتياد المساجد.
هل يسدل هلال عيد الفطر السّتار على مرحلة إيمانية متميّزة تشارك فيها المسلمون في مختلف أصقاع الأرض؟ هل تنطلق العجلة الدنيوية من جديد دون اكتراث للجانب الروحي والإيماني بحجّة الانشغالات والضغوط الحياتية، وحتى "الفايسبوكية"؟
حسناً.. هل انتهت المهمّة عند هذا الحدّ، وحانت العودة إلى سابق العهد قبل شهر رمضان؟
هل يعود سيّئ الخلق إلى طباعه التي حاول فرملتها في شهر الله؟
هل يتهاون بالصلاة مجدَّداً من حاول على مدى شهر كامل أن يصلّي الصّلاة في أول وقتها؟
هل يترك المؤمنون صلاة الصّبح بعدما جهدوا لأدائها في الشّهر المبارك؟
ماذا عن النظر إلى الأيتام وأحوالهم، هل نتخلّى عنهم على مدار العام؟
ماذا عن كتاب الله الذي أنزل في شهر رمضان؛ هل سيبقى على مدار السّنة ينادينا ويعاني من هجرنا وجفائنا؟ هل سنحمله بين أيدينا مجدَّداً، أم سنتركه معلَّقاً على رفوف المكتبات؟
هل ستبرد الهمم العالية الّتي دأبت على الوقوف بين يدي الله في المساجد تناجي ربها وتطلب الغفران؟
هل تنتهي مع هلال شوّال صلاحية هذا الموسم العبادي الذي شحذت فيه الهمم على مستوى الأفراد والجماعات لتحصيل القربى من الله سبحانه وتعالى؟
انتهى الشَّهر المبارك نعم، ولكن ماذا عن الزاد الذي حملناه من شهر رمضان؛ هل نحن قادرون على أن نكمل ما بدأناه في رمضان، أم أنّ ذلك يفوق طاقتنا وليس بمقدورنا أن نقوم به؟
شهر رمضان يمهّد لنا الطريق الواسع لأن نتحكّم ببقيّة أهوائنا وملذّاتنا وميولنا وشهواتن
ونبدأ من حديث أمير المؤمنين(ع): "من تساوى يوماه فهو مغبون"، إذ يؤكّد سماحة الشّيخ محسن رمّال، أنّ الله سبحانه وتعالى، أراد منّا من خلال الأجواء الروحانيّة العبقة التي اكتسبناها من صيامنا في شهر رمضان، "أن نصل إلى مرحلة التقوى التي هي صون النّفس من الوقوع في المهالك، وأيّ مهلكة أعظم من غضب الجبّار! الصوم يمثل مرحلة ترويضيّة للإنسان، فإذا كنا نستطيع خلال شهر كامل، الابتعاد عن ضغط غريزتين أساسيّتين في حياتنا، وهما غريزة الطّعام والشّراب اللّذان هما قوام حياتنا كجسد، والغريزة الجنسيّة التي يستمرّ بها النوع البشري من جهة أخرى، واستطعنا أن نتحكّم بهما شهراً كاملاً، فإنّ ذلك يمهِّد لنا الطريق الواسع لأن نتحكم ببقيّة أهوائنا وملذّاتنا وميولنا وشهواتنا".
ويشدد الشيخ رمال على أهميّة أن نحافظ على الاستمرارية، فإذا قطعنا هذه الاستمرارية، فلن نكون قد حققنا الهدف من الصّيام.
وفي معرض توضيحه لأهمية الاستمرار فيما بدأناه في الشَّهر الكريم، يدعو كلّ إنسان إلى النظر إلى الخطّ البياني لحياته في غير شهر رمضان، ومقارنته به، ثم نحكم على أنفسنا:
1- هل نبقى على قراءة القرآن الذي هو دستور حياتنا بشكل يوميّ، أم أنّ الغبار سوف يملؤه؟
٢- هل يبقى اهتمامنا بالأيتام والفقراء كما هو الحال في شهر رمضان؟
٣- هل نصوم عن الحرام بكلّ تفصيلاته، كما كنا نحرص في شهر رمضان؟
هل... هل... هل... فإذا لم نكن كذلك، فنحن المغبونون، على حدّ تعبير الإمام(ع).
يرى الحاج حسين هزيمة، في معرض سؤالنا عن إمكانيّة الاستمرار بالهمة الرمضانيّة نفسها، أن المشكلة لا تكمن فقط بقدرتنا على الاستمرار، بل السّؤال الأساس هو: "هل مرَّ شهر رمضان على أغلب المجتمع دون استغابة أو بهتان أو نميمة، حتى يكون السّؤال إذا انتهى شهر الله: هل نعود كما كنّا؟ وهل تعلّمنا من شهر الله ما يريده الله منّا، من خلال خطبة رسول الله(ص) باستقبال شهر الله؟".
تتشارك حوراء قوصان مع الحاجّ حسين في النظرة السلبيّة إلى إمكانية إحداث تغيير في حياتنا بعد شهر رمضان: "المشكلة أنّنا لم نتغير في شهر رمضان كما ينبغي. للأسف، لم يعد هناك أي حرمة للشّهر، حتى يكون هناك حرمة لغيره من الأيام....نسأل المولى أن يرضى عنا في هذا الشهر، وأن يعيننا على المحافظة على رضاه".
من جهته، يعتبر الحاج عطا الله حمود، أنّ شهر رمضان كان بمثابة "المؤونة والزّاد والرّصيد المجمَّد للعام المقبل، علينا أن نحذر المعاصي والضّياع والموبقات، إن لم يغير شهر رمضان فينا وفي نفوسنا الأمّارة بالسوء، فلنراجع حساباتنا مع الله، ولنعد النظر في علاقتنا مع الله الواحد الأحد، ولنجدِّد عهودنا مع الله، لأنّه لا ينسى من فضله أحداً".
نفحات تغييريّة
يؤكّد الأستاذ مصطفى بيرم، المتخصّص في التنمية البشريّة، أهميّة الزمن في حياة الإنسان الذي أقسم الله تعالى به: {والعَصْر}، من أجل تكامله وإحداث التغييرات في حياته، معتبراً أن شهر رمضان من النفحات الإلهية التغييريّة: "في شهر رمضان، ليلة هي خير من ألف شهر، وهي ليلة القدر... وكأنها إشارة إلى إمكانية حصول طفرة نوعية سلوكيّاً، نحو اختصار فعالية ٨٣ سنة (ألف شهر) في ليلة واحدة، يحصل فيها إسراء في ليل العبادة الواعية، كحركة أفقية تهتمّ بالعمل الصّالح وبثّ الخير في الناس، تتقاطع مع حركة عمودية معراجيّة، تفتح الروح على سماء المعاني الإلهية". أما على مستوى تنمية الذّات، فيعتبر بيرم أنّ شهر رمضان يمثل تأكيداً لـ "ميكانيزم القدرة"، على قاعدة "أنني أستطيع"، ثم على قاعدة "استنساخ القدرة" لما بعد هذا الشّهر، من خلال مجهود الحفاظ على الروحيّة، تماماً كتعبئة الوقود الذي لا يكون من أجل البقاء في المحطّة وحسب، بل من أجل كلّ الرحلة نحو المعشوق الأكبر.
للأسف، أغلب النّاس لا يستمرّون بعد انقضاء الشّهر الكريم بأداء الواجبات الدينيّة بروحيّة عالية
تجيب الاختصاصية في علم النفس العياديّ، الأستاذة رولا عز الدين، عن السؤال الأساس: هل نستمرّ بعد شهر رمضان في أداء العبادات بالروحيّة والهمّة نفسهما، وتقول: "للأسف، أغلب النّاس لا يستمرّون بعد انقضاء الشّهر الكريم بأداء الواجبات الدينيّة بروحيّة عالية، تخفّ الهمّة تدريجياً، على اعتبار أنَّ الأجواء العامّة والخاصّة، في رأيي، تكون قد تغيّرت عمّا كانت عليه في شهر رمضان، نلاحظ ابتعاداً تدريجيّاً عن المساجد وعن كتاب الله، وعن السلوكيات التي تراعي حدود الله، والتي لا تتغيَّر في شهر رمضان وغير شهر رمضان".
وتختصر عز الدين مسألة الاستمرار بشقين؛ الأول يتعلق بالتزود الروحي الذي حصّلناه خلال الشهر الكريم، والجانب الآخر يرتبط بقرار الإنسان الّذي يلزم نفسه بالإصلاح الذي بدأه في شهر رمضان.. "هناك من يتخذ قرار عدم تأخير الصّلاة عن وقتها، إذا كان جدّياً في قراره، فسينجح، على الرغم من مشاغل الحياة التي تجبرنا أحياناً على التّهاون ببعض الأمور العباديّة".
وفي الختام أعزّائي القرّاء، لا بدّ لنا ونحن نعيش أيّام العيد المبارك، من أن ننظر إلى الأيّام القادمة من عمرنا نظرة وعي وتأمّل، أن نحسم خيارنا ونتّخذ القرار، أن نكمل ما بدأناه من أجواء إيمانيّة في شهر رمضان، حتى نقوى على هذه الحياة ومتاعبها، نتنفّس النفحات الرمضانية، لتبقى أيامنا كلّها أعياداً بطاعة الله ورضاه، كما قال الإمام عليّ(ع): "كلّ يوم لا يعصى الله فيه هو يوم عيد".
إنَّ الآراء الواردة في هذا التّحقيق، لا تعبّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.