إذا لم تكن أنت صاحب شخصيّة نكديّة، فحتماً التقيت بأحدهم في حياتك، ربما هو أحد أفراد أسرتك؛ أخوك، أختك، ابنك أو بنتك، أو حتى زوجتك أو زوجك، أو زميلك في العمل، والطامّة إذا كان ربَّ عملك.
النّكد، هو شعور ومزاج يؤثّر بشكل كبير في سلوك صاحبه وطريقة تفكيره، وحتى قراراته ومواقفه، والمشكلة لا تنحصر عند هذا الحدّ، بل تطاول تأثيراتها السلبيّة المحيطين بهذه الشخصيَّة، وخصوصاً إذا كان صاحبها في موقع القرار والإدارة، حينها، يكثر ضحايا هذا المزاج السيّئ وتكبر المشكلة. فلنتصوّر الوضع إذا كانت الأمّ هي التي تمتلك صفة النّكد، وتمارس نكدها اليوميّ على الأولاد والزّوج، كيف سيكون حال الأسرة؟ وأيّ استقرار ستنعم به وسلام؟
لا شكّ في أنّ الشخصيّة النّكدية لها تأثير في من حولها، بحسب العديد من الدراسات العلمية التي أكّدت ذلك، ونصحت بضرورة الابتعاد عنها قدر المستطاع، لأنها تنشر جوّاً من الكآبة والقلق والتوتّر والتّشاؤم.
ولكن، ماذا لو كان مديرك في العمل هو صاحب هذه الشخصيّة، أو زميلك التي تلتقيه لأكثر من ثماني ساعات يوميّاً؟ حتماً أنت في مأزق، ولكنك أحسن حالاً من صاحب هذه الشخصيّة التي بحسب التوصيفات النفسية العلمية، هي مريضة نفسياً، ومن أكثر الشخصيات تعقيداً في تشخيصها وعلاجها.
مواصفات الشّخصيّة النّكديّة
هل تمتلك شخصيّة نكديّة؟
ربما لا تحتاج إلى الكثير من التّفصيل للإجابة عن هذا السّؤال عنك أو عن أقرب الناس إليك، فالمكتوب يُعرَف من عنوانه، فالنّكد كلمة تختصر عدداً من الصّفات السلبيّة المنبوذة بين الناس على سبيل التّعداد لا الحصر، فإذا كنت تمتلك أغلبها، فأنت نكديّ لا محالة:
· أشعر بالغيرة الشّديدة من الآخرين.
· أمتلك شخصيّة عنيفة في المواجهة.
· أنا دائماً على حقّ.
· أتصيّد أخطاء الآخرين.
· عباراتي قويّة ومدمِّرة لنفسيات الآخرين.
· لا أتعاطف مع غيري.
· أشعر بالعظمة والأنا التي لا يمتلكها غيري.
· أحاول أن أستغلّ تعاطف النّاس معي.
إذا كان من الصّعب عليك أن تعترف بأنّك تمتلك شخصية نكدية، أو أغلب صفات هذه الشخصية، فمن المفيد أن تعرف، عزيزي القارئ، من المسؤول عن تكوين هذه الشخصيّة، وهل يمكن تصحيح المسار وإحداث تغييرات إيجابية في هذه الشخصيّة؟
يؤكّد مدير مركز "ذات" للتنمية البشرية، الأستاذ علي عباس، أنّ الشخصية البشرية هي بنت البيئة، التي تسمّى ضمن الهندسة النفسيّة "مصادر البرمجة" التي تصنع الشخصيّة الإنسانيّة، وتسمَّى البصمة الشخصيّة، والتي تختلف من شخص إلى آخر، بحسب المصادر التي تتنوّع ما بين مصادر أصيلة طبيعيّة فطريّة، تولد عادةً مع الإنسان، وتوضع عادةً في خانة الميول والقابليّات، ومصادر برمجة نفسية نسمّيها البيئة الخارجيّة، والتي يندرج في خانتها المدرسة ووسائل الإعلام والمحيط العائليّ، وحتى البيئة الطبيعيّة من نبات وأشجار وحتى إسمنت.
ويضيف: "علميّاً، الجينات تورّث الأخلاق أو الاستعدادات الخلقيّة، لذا نرى أجيالاً ترث الغضب أو الانفعال من أجيالٍ سبقتها، بحيث تُعرَف هذه العائلة أو تلك بالطّيبة أو العصبيَّة أو غيرهما من الصّفات، وفي بعض الأحيان، لا يمتلك الإنسان هذه الصّفة، ولكن يكون لديه استعداد كبير لاكتسابها. وهناك أيضاً مصادر برمجة عصبيّة مضطربة.. كلّ هذه العناصر تؤثّر في صناعة شخصيّتنا، ويتفاوت تأثيرها بين شخصٍ وآخر، وحتى بين أفراد الأسرة الواحدة الّذين يتعرّضون للعناصر نفسها، ولكن بطرق مختلفة، هناك شخصيّات تتفاعل مع الوجود بطرائق مختلفة، هناك من يميل إلى الانفعال أكثر، فيما شخص آخر يحبّ الوحدة، فيما آخرون يميلون إلى النّقّ والتذمّر أكثر".
معاناة حقيقيّة
يتحدّث محمّد عن سنوات عديدة من المعاناة في عمله، رغم موقعه الوظيفيّ المتميّز. محمد شابّ طموح، ويمتلك الكثير من المؤهِّلات الأخلاقية والعلمية، ولكنّ المشكلة تكمن في شخصيّة مديره في العمل، الّذي لاينفكّ يوجّه الانتقادات إليه، ويبحث عن أخطائه بغية إدانته. لم يوفَّق ذلك المدير النّكد في مهمّته، على الرغم من مرور خمس سنوات على عمل محمّد في المؤسّسة، ولكنّه في محاولات دائمة لتحقيق الهدف. يحاول محمّد تجاهل هذا الوضع، والتركيز على عمله، وخصوصاً أنّه حاول أن يجد عملاً آخر ولكنه لم يوفَّق. ويقول: "أشعر بأنّه يتربّصني بكلّ ما أقوم به، كلماته حادّة، أشعر بسلبيّته حتى وهو يبتسم، أحاول أن أتجاهله ولكنَّ تأثيره كبير، فعلاً مشكلتي كبيرة، لا أعرف ما سرّ هذه الشخصيّة".
لا تختلف تجربة أمل كثيراً عن محمّد، تتشارك معه مرارة التّجربة التي تعيشها مع زميلتها في العمل، التي لاتنفكّ تحبطها وتتدخّل في حياتها، وقد وصل بها الحدّ إلى التدخّل في شؤون حياتها الخاصّة، ودعوتها إلى الانفصال عن خطيبها، لأنه لا يقدِّم لها الكثير بحسب رأيها. وتقول أمل: "شعرت بأنها تفرض قراراتها عليّ، دائماً حاضرة بآرائها السلبيَّة، تشعرك بأنها تفهم بكلِّ شيء، وتحاول أن تتخطّى كلّ الحدود. صراحةً، كاد تأثيرها السّلبي يدفعني لترك خطيبي، إلا أنّني أدركت خطورة ذلك، وطلبت من مديري أن أنتقل إلى قسمٍ آخر في الشّركة التي أعمل بها".
متى تتشكَّل الشخصيّة النّكديّة؟
يؤكِّد الأستاذ عباس أنَّ عمليّة برمجة الشخصيَّة تبدأ منذ الصِّغر، وتستمرّ خلال مختلف المراحل العمريّة، لافتاً إلى أنّنا نخضع لعمليات برمجة من المحيط تماماً كأيّ جهاز حديث، فالأمّ والأب يتولّيان عملية برمجة أولادهما من خلال عمليّة التربية التي يسودها التّمييز والتفرقة بين الأولاد، الأمر الّذي يؤثّر في شخصيّتهم، ويساهم في تكوين الشخصيّة النَّكدية أو السلبيّة، وذلك "عندما لا تتعاطى الأمّ بالسوّيّة مع أطفالها، وعندما لا يتعامل الأب مع أولاده بالحبِّ نفسه. الطّفل الجميل أكثر حظوةً عند الأهل لمجرّد أنّه جميل، ربما يكون أقلّ ذكاءً بين أخوته، والأهل يهملون الطّفل الأذكى على حساب الطّفل الأجمل. هناك دراسة أُجريت مؤخَّراً، تشير إلى أنَّ حظوظ الأشخاص الأكثر جمالاً في أيّ وظيفة يتساوون فيها بالمؤهِّلات مع غيرهم، هي أكثر ما بين 40 إلى 60 بالمئة، فقط لأنهم أجمل من غيرهم، الأمر الذي قد يستفزّ بعض الأشخاص، ويؤسّس عندهم شخصيّة تعبّر عن آرائها من خلال نقد ما يجري حولها. هنا، تتولّد الميول عند الشّخص، ويصبح لديه قناعة بأنّه متقبَّل اجتماعياً حتى لو كان نكديّاً، وهذا حال عدد كبير من الفتيات الجميلات، فيما تكون الفتاة الأقلّ جمالاً أكثر واقعيّة في التعاطي، ولا تتعاطى بسلبية مع الآخرين".
ويضيف: "الشخصيَّة السيِّئة المزاج أو النّكدية، غالباً ما تتشكَّل في عمر 3 إلى 5 سنوات، عندما يكون الطّفل قادراً على أن يؤذي الأهل بشكل مباشر، بالصّراخ أو بالخرمشة، أو بأيّ وسيلة أخرى، كي يحقّق الأهل ما يريده، وعندما يخضع الأهل لمطالب الطّفل، يصبح لدى الطّفل غرس معرفة: أتصرَّف كيفما أشاء، وسأحصل على ما أريد. تتصلّب الشخصيّة البشريّة في هذه المرحلة العمريّة، ومن الصّعب تغييرها. أكبر خطأ يقع فيه الأهل، هو الاستجابة لمطالب الطّفل نتيجة سلوكه السّلبيّ، المكافأة على السّلوك السّلبيّ هي أخطر عادة تربويّة، وهي شائعة كثيراً في مجتمعنا. ولعلّ الثّقافة الأخطر، هي ثقافة الإشباع الزائد، يعني أنا أعطي الطفل كلّ شيء، ولا أحرمه شيئاً. هذا الأمر غير صحيح تربويّاً.
لذا، على الطّفل أن يربط كلّ شيء بسبب.. يجب أن يكون هناك مكافأة على ما يقوم به الطّفل من أعمال جيّدة، ولكن على الأهل أن يصارحوا أولادهم بأخطائهم. يمكن أن يقول الأهل للولد: "أنا أحبّك، ولكنّني غير راضٍ عن تصرّفك الأخير، لأنه غير صحيح". علينا كأهل أن نربط ما بين المكافأة والسّلوك، حتى نبني شخصيّة سليمة لأولادنا".
هل فات القطار؟
"إنَّ عمليَّة البرمجة مستمرَّة حتى آخر العمر، وإذا أردنا أن نعالج برمجة سيِّئة موجودة لدينا، فغالباً ما نحتاج إلى المدَّة نفسها الّتي قضيناها في البرمجة السلبيَّة، إلّا إذا عالجنا بطريقة الصَّدمة، وهذه الطريقة خطرة ولا تعالج بسهولة، ولها تداعياتها، تماماً كالعلاج الكيميائي لبعض الأمراض السرطانية، هو أسرع، ولكنّه مؤذٍ على صعد أخرى"، يؤكّد الخبير في التنمية البشرية، مشيراً إلى أنَّ أولى نقاط التغيير في أيّ مشكلة نفسيّة، هي معرفة المشكلة وتقبّلها، "غالباً، الأشخاص الذين يعانون مشكلة المزاج السيّئ أو النّكد، لا يتقبّلون مشكلتهم، وذريعتهم حاضرة: (الواقع سيّئ ، النّاس غلط، الدّولة غلط...)، ويتناسون أخطاءهم تماماً التي يعتبرونها ردّ فعل طبيعيّاً على كلّ ما يحيطهم".
لإحداث تغيير في الشخصيّة الإنسانيّة، يفترض ربط السّلوك بالنّماذج والقدوة الحسنة
وينتقد عباس الأسلوب التبريريّ للأخطاء: "نحن كائنات بارعة في التّبرير، أتحدّث عن الكبار، حين يعترف الإنسان بأنّه أخطأ، وأنّه غاضب، دائماً يلحق خطأه بسبب؛ هم أخطؤوا... علينا أن نلتفت إلى أنّنا ارتكبنا خطأً بمعزل عن التّبرير والسَّبب، الخيّر خيّر لنفسه، والشّرير شرّير لنفسه، والنّكد يصبّ في الخانة نفسها"، خالصاً إلى وجود إمكانيّة للتَّغيير، بالقيام بمجموعة من الخطوات، معتبراً أنّ أهمّها أن يلتفت الشّخص إلى أنّه يعاني مشكلة سلوكيّة معيَّنة.
القدوة الحسنة
ويرى عبّاس أنّ "من الخطوات المهمَّة لإحداث تغيير في الشّخصيّة الإنسانيّة، ربط السّلوك بالنّماذج والقدوة الحسنة، فإذا كنت أعاني الخلق السيّئ، أو حدّة الطّبع مع الآخرين، فإنّ عليّ من منطلقاتي الإيمانيّة الإسلاميّة، أن أقتدي بسيرة رسول الله(ص) والأئمّة(ع)، أن أقارن موقفي السّلوكيّ الحادّ مع الناس، بسلوكهم الرّاقي المتسامح معهم، عليّ في لحظة نفسيّة معيَّنة أن أنكسر عندما أقرأ أنَّ الإمام عليّ بن الحسين(ع) جاءه رجل يقول: دخلت المدينة، وما فيها على وجه الأرض أحد أبغض عليّ من عليّ بن الحسين، وقف وقال له: أنت عليّ بن الحسين؟ فقال الإمام: نعم. فبدأ يكيل الشّتائم له ولأبيه ولجدّه، ألقاها أمامه وهو منفعل، فقال له الإمام: هل فرغت؟ فردَّ الرّجل: لم أفرغ، وعاد إلى السّباب والشّتائم، وعندما انتهى، قال الإمام(ع):يا أخي، إنّك كنت قد وقفت عليّ آنفاً فقلت وقلت، فإن كنت قلت ما فيَّ، فأستغفر الله منه، وإن كنت قلت ما ليس فيَّ، فغفر الله لك.. إن كنت فقيراً أعطيتك، وإن كنت جائعاً أطعمتك. فقبّل الرّجل ما بين عينيه وقال: بل قلت فيك ما ليس فيك وأنا أحقّ به".
إمّا أن نساعد الشّخص النّكد على التخلّص من سلبيّته، أو نبعده من دائرة حياتنا الشخصيّة
ويختم بالقول: "إذا اعتبرنا أنّنا أبناء مصادر البرمجة الّتي تعمل على برمجة شخصيّتنا، وإذا رغبنا في التحكّم بالشخصية البشريّة، فإنّ علينا أن نتحكّم بهذه المصادر من أجل تحقيق الهدف، أمّا الأشخاص الّذين يعانون وجود أشخاص نكديّين في حياتهم، فأمامهم خياران لا ثالث لهما؛ إمّا أن نساعد الشّخص النّكد على التخلّص من سلبيّته، أو نبعده من دائرة حياتنا الشخصيَّة للحدّ من تأثيراته السلبيّة. الكلمة السّلبية لها أثر وحضور في النّفس والعقل والرّوح، وحتماً سنتأثّر بها مهما حاولنا أن نحدّ من ذلك، لأنَّ العدوى السلوكيّة لا تقلّ خطورةً عن العدوى المرضيّة التي تنتقل من خلال التواصل والاحتكاك المباشر".
وفي الختام أعزّائي القرّاء، ربما نحتاج إلى إعادة النَّظر بعلاقاتنا بأصحاب هذه الشخصيّات التي لا يمكن أن نترك لهم باب حياتنا مشرَّعاً للعبث بها، لإرضاء ميولهم الشخصيّة وأهوائهم، نحتاج ذلك لنا بالدَّرجة الأولى، ولهم أيضاً، لأنَّ تقبّلنا وتفهّمنا لكلِّ تصرّفاتهم، يدفعهم إلى التَّمادي والاعتقاد أنَّ ما يقومون به هو صحيح ولا يقبل النِّقاش، لا تتركوا النَّكديّين يفسدون حياتكم.
إنّ الآراء الواردة في هذا التّحقيق، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.