لا يفارقنا برهةً، يعيش معنا كلّ لحظات حياتنا، يشاركنا أفراحنا وحتى أتراحنا، لا نملّ منه أبداً مهما أطلنا التأمّل فيه، نصطحبه معنا أينما ذهبنا، ولا نتخلّى عنه حتى في الفراش، وفي مختلف الظروف والأوضاع، حتى في بيت الخلاء - أجلّكم الله -.
جلساتنا عامرة به، لا نتخلّى عن النظر إليه، دون اكتراث لمن نجالس من أحباب وأصدقاء. هذا وأكثر، هو اليوم بلا منازع خير جليسٍ وأنيسٍ وصاحبٍ، وهو الّذي عكّر صفو جلساتنا الأسريّة والعائليّة. نجلس مع الآخرين وعيننا عليه، نكتفي بحضوره ولا نبالي لغياب من غاب وحضور من حضر.. هو ذاك الجهاز الصّغير الذي ربما تقرأ كلماتي في هذه الأثناء من خلاله. نعم، لديه هذه القدرة الخارقة وأكثر، وربما هذا غيض من فيض يعكس حالنا مع التّقنيّات الحديثة التي نتعلّق بها إلى حدّ الإدمان.. نعم الإدمان!
إذا كنت مستغرباً عزيزي القارئ من هذا التَّحامل على الهاتف الذّكيّ، ومن ورائه الإنترنت الّذي يسهّل استخدام التطبيقات الحديثة، أدعوك لمتابعة القراءة علّنا نكون محقّين.
سارة، رنا، زينب، وغيرهنّ من الفتيات، وحتى الشباب أحمد وعلي وحسين وغيرهم، أجابوا عن سؤالنا التّالي: ما هو الشّيء الذي لا تتخلّون عنه أبداً، ولا تستطيعون العيش من دونه أبداً، ولو لساعات معدودة؟ وكان الجواب حاسماً ودون تفكير، هو "الهاتف الخلوي". وعند السّؤال عن السّبب، كانت الإجابات تظهر الجانب الإيجابي لهذه التّقنيّات التي "كسرت كلّ الحواجز الجغرافية"، و"سهّلت التواصل مع الآخر"، وجعلتنا "نطّلع على كلّ الأحداث بكبسة زرّ"، و"نتواصل مع الأهل على مدار اليوم دون تكلفة مادّيّة"...
أجوبة لا غبار عليها، وأنا اعترف بجميل الهاتف الخلويّ وخدماته الّتي أحدثت نقلة نوعيّة في ميدان التواصل البشريّ. اللافت أن لا وقت محدّداً لاستخدام الهاتف الخلوي والإنترنت، ومعظم من سألناه استبعد فكرة تنظيم وقت الاستخدام. فهل حقّاً نحن مدمنون؟!
"الإدمان هو التعلّق الشّديد الناتج من الوقوع تحت تأثير مادّة معيّنة، إلى درجة يصبح الإنسان مسلوب القدرة، لا يملك إرادةً لضبط الجرعات أو سلوكيّاته بعيداً منها، بحيث يقع الإنسان تحت سيطرة هذه المادّة دوماً، وتكون حالة التعلّق تصاعديّةً في الجرعات التي تزداد مع الأيّام، حتّى تصبح الجرعات الأولى غير كافية أبداً".
هكذا تعرّف الاختصاصيّة في الطّبّ النفسي والعلاج الزّوجي د. تغريد حيدر الإدمان، مختصرةً كلّ الحكاية، فعندما لا يستطيع الإنسان أن يبتعد عن المادَّة التي يتناولها، ويصبح لديه حاجة دائماً إليها، لا يمكن له العيش بدونها ولو لبعض الوقت، باختصار، تكون هذه مؤشّرات أساسيّة للإدمان، تؤدّي غالباً إلى اضطرابات نفسيّة عند الإنسان.
95% ممن يستخدمون الإنترنت يرفضون الاعتراف بأنَّ لديهم تعلّقاً بالإنترنت
وتوضح د. حيدر إلى أنَّ إدراج التعلق الإلكتروني في خانة الإدمان من قبل منظَّمة APA الأميركيّة، سبقته نقاشات حقيقيَّة، كون المادّة التي يتمّ تناولها غير محسوسة وملموسة كما الموادّ المخدّرة، مشيرة إلى أنّه "بعد سنوات من الدراسات والأبحاث، تم إدراج التعلق والاستخدام الشّديد للإنترنت في خانة الإدمان الإلكترونيّ، لأنهم وجدوا أنَّ التّأثير الكيميائيّ في الدّماغ هو ذاته، سواء في حالة تعاطي مادّة مخدِّرة، أو في حالة استخدام الإنترنت. من يفرط في استخدام الإنترنت، يتعرّض للتّأثير نفسه في الدّماغ، تماماً كمن يتعاطى موادّ مخدّرة. المستخدم للإنترنت يشعر بالاكتئاب تماماً كما المدمن على المخدّرات، ولا يشعر بالاكتفاء أبداً منها، مهما أمضى من ساعات على مواقع التّواصل الاجتماعيّ وشبكة الإنترنت.
وحول رفض النّاس لمصطلح الإدمان الإلكتروني، واعتباره " تجنّياً وتهمة"، أكّدت د. حيدر أنّه أمر طبيعيّ: " 95 % ممن يستخدمون الإنترنت يرفضون الاعتراف أنّ لديهم تعلّقاً بالإنترنت، من الصّعب جداً الاعتراف بأنّهم مدمنون على استخدام مواقع التّواصل الاجتماعي، كلمة إدمان تشعرهم بالخوف، ومن الطبيعي أن ينكروا ذلك، لأنهم في داخل المشكلة".
يؤكّد سماحة الشيخ محسن رمّال أهمية أن يواكب الإنسان عصره ولغة عصره، حتى لا يعيش وكأنّه في القرون السابقة، وإذ يؤكِّد سماحته أهمية "وسائل التّواصل الاجتماعي، سواء منها الفيسبوك أو الواتس أب أو التويتر ونحوها، التي صارت من مستلزمات الحياة اليوميّة التي إن انقطع عنها، انقطع عن كثير من الأخبار والثقافة والتّواصل مع الأصدقاء"، يعتبر أنَّ المشكلة تبدأ عندما يطغى استخدامها ويزيد عن حدّه المعقول، فتصبح بحدّ ذاتها مشكلة، بل وتتفاقم المشكلة عندما يساء استخدام هذه الوسيلة لمصالحه الأنانيَّة والشيطانيَّة.
ويضيف: "من حقّ الإنسان أن يرفّه عن نفسه، ومن حقّه أن يعيش إنسانيّته في التواصل، لأنَّ الإنسان بطبعه كائن اجتماعيّ، ولكن إذا أساء التّواصل وكيفيّة التّواصل واستغرق في المدى الزمنيّ، عندها يصبح متجاوزاً لحدِّه المسموح به، تماماً كما أنَّ الإنسان من حقّه أن يلهو وأن يعمل، ولكن إذا زاد لهوه وعمله عن الحدِّ الطّبيعيّ، وقصّر في حياته العائليّة، سواء مع الزّوجة أو الأولاد أو أهله، فإنّه سيُسأَل عن هذا التّقصير، وسيحاسَب عليه يوم يقف الإنسان بين يدي ربِّه ليسأله عن وقته فيما أمضاه وفيما أنفقه".
ويقرّ سماحته بأنّ ما نناقشه اليوم هو حال الكثير من "إخواننا وأخواتنا، الّذين صاروا مدمنين إلى حدّ الهوس بأمور ليت الفائدة فيها كانت كبيرة، ولكنّ هوس البعض منهم أبعد الأب والأمّ عن الاهتمام الكافي بأمور تربية أولادهم، وأبعد الشّخص حتى عن صلاته ودعائه، إذ تراه يؤخّر صلاته عن وقت الفضيلة. بل إنّ كثيراً من تلاميذنا انعكس عليهم هذا الهوس في اهتمامهم بدروسهم وتحصيلهم، نتيجة انغماسهم وإدمانهم على الدّردشات التي غالباً جداً ما تكون فارغة من المضمون العقلائي".
ويخلص إلى القول بأنَّ "إساءة البعض في كيفيَّة التواصل، أوقع البعض منهم في حبائل إبليس. فكم من امرأة متزوّجة وقعت في حبائل الشَّيطان، حينما استُدرِجت لطرح مشاكلها الزّوجيّة مع شخص غريب عنها! لتبدأ مع هذه الخطوة أولى خطى تفكّك العلاقة الزوجيّة، حينما تدخله في تفاصيل العلاقة الخاصّة بين الزوجين، ثم تتوالى الخطوات، لتعيش معه الانجذاب، وتتوسّع الهوّة بينها وبين زوجها، إمّا نتيجة انكشافها، أو بسبب تعلّقها الزّائد بذلك الشّخص والوصول إلى الطّلاق".
تحسم د. تغريد حيدر النقاش: "كلّ من يستخدم الفايسبوك هو مشروع مدمن، ولا يمكن لأحد أن ينكر ذلك أو يقول لا، بغضّ النّظر عن العمر والجنس، وعن الثقافة والموقعيّة الاجتماعيّة أو العلميّة، وحتى الدينيّة، والاعتبارات المتعلّقة بجهة استخدام الإنترنت، هذه التقنيّات الحديثة صمِّمت بطريقة لا تشعر المستخدم بالشّبع أو الاكتفاء، وتجعله يشعر بأنّه بحاجة دائمة إليها، هي مصدر سروره وراحته، وفي حال عدم تمكّنه من استخدامها، حتى لو كان السّبب طارئاً كعطل في هاتفه الجوّال، أو مشكلة تقنيّة في الإنترنت، تراه يشعر بالاكتئاب".
وتضع د. تغريد بين أيدينا بعض النّصائح المساعدة في هذا الإطار، للتَّخفيف من تأثير الإنترنت فينا:
1. تخصيص وقت محدَّد لاستخدام الفايسبوك أو الواتس آب أو التويتر.
2. تحديد وقت الاستخدام لجهة عدد السّاعات.
3. ينصح بأن لا يكون الاستخدام قبل النّوم مباشرةً، لما لذلك من تأثير في الصّحّة النفسيّة للمستخدم.
4. لا ننصح باستخدام الإنترنت أكثر من ساعتين يوميّاً.
5. إذا أردت أن لا تصاب بالإدمان الإلكترونيّ، عليك أن لا تبقي حسابك الشّخصيّ على فايسبوك مفتوحاً على الهاتف الخلويّ، عليك بخطوة sign out.
6. يمكنك إيقاف خدمة Notification التي تزوّدك بكلّ تعليق أو بوست جديد من الأصدقاء، ويمكنك رؤيتهم حين تريد أنت، حتى لا تفقد تركيزك في عملك أو دراستك.
7. هناك الكثير من الأشياء الّتي عليك إنجازها خلال يومك، سواء كنت عاملاً أو عاملة، أمّاً أو أباً، لا تدع هذه التقنيّات تحدّ من إنتاجيّتك في الحياة.
8. لا تدع الاستخدام المفرط يؤثّر في حالة الخشوع أثناء قيامك بالعبادات، بعد أن بات لدينا حالة من الخشوع على الإنترنت.
9. علينا أن لا ندع هذه التقنيّات تفصلنا عمّا يدور حولنا من أحداث، بحيث نفقد اهتمامنا وتركيزنا مع كلّ من حولنا، ولا نلتفت إلّا إلى جهازنا الخلوي أو الحاسوب.
10. إذا شعرت بأنّك لا يمكنك العيش دون إنترنت أو فايسبوك ولو لبضع ساعات، فأنت حقّاً مدمن.
هل لدينا القدرة على اتخاذ قرار العلاج أو الحدِّ من الجرعات الإلكترونيّة التي نتناولها ليلاً نهاراً؟
عزيزي القارئ، صحيح أنَّ هناك أناساً لا تدمن بشكل سريع وتلقائيّ، تماماً كالمدخّن أو من يتعاطى المخدِّرات، حيث يعتبر الأمر تسليةً عنده في بادئ الأمر، ولكن عندما تصل إلى مرحلة أن تتفقَّد هاتفك في كلّ لحظة، نعم في كلّ لحظة، وأنت تدَّعي أنّك قادر على أن تتوقّف عن استخدام هذه التقنيّات حين تشاء، فإنّك في الحقيقة تكون فاقداً للقدرة على فعل ذلك، وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها.
فهل حقّاً نحن مدمنون؟ وهل لدينا القدرة على اتخاذ قرار العلاج أو الحدّ من الجرعات الإلكترونيّة التي نتناولها ليلاً نهاراً؟ ربما نحتاج إلى التّجربة، فلنحاول.
إنَّ الآراء الواردة في هذا التّحقيق، لا تعبّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.