{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ}، وهي بيت المقدس، لما خرّبه بختنصر ـ كما قيل ـ أو الأرض المقدّسة، في قول آخر، أو هي القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت في احتمال ثالث، وهي خاوية على عروشها، فلا أثر فيها للحركة والحياة والعمران، فقد مات أهلها وسقطت سقوفها وأبنيتها، فهي قرية ميتة في جميع مظاهرها وأوضاعها، فانطلقت أفكاره في قضية الحياة والموت كأيّة ظاهرة للموت في هذا الحجم يلتقي بها الإنسان، فيطرح السؤال الكبير الذي قد ينطلق من فضول المعرفة، أو من خاطرة الشكّ الطارئ السريع الذي لا يبتعد عن أجواء الإيمان، لأنّ المؤمن قد يطوف به طائف من الشيطان في حالة الاستغراق الفكري ليتذكّر بعدها.
{قَالَ أَنَّى يُحْي هَـذِهِ} القرية بأهلها وبنيانها {اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَ}.
كيف يحدث ذلك؟ وهل يمكن للحياة أن تتجدّد بعد الموت؟ ومن أين يحدث ذلك؟ وفي أيّ زمان؟ وكيف يكون ذلك من دون أن يعرف طعم الموت؟
فلم يكن قد دخل تجربة الموت ليعرف تجربة الحياة بعدها، وكأنّه أراد أن يعرف سرّ الظاهرة في إمكانات التّغيير {فَأَمَاتَهُ اللهُ مِاْئَةَ عَامٍ}، تماماً كما تموت الحياة بالكلَّية في إشباعٍ عميقٍ بالموت، بحيث يزول الإنسان من حركية الحياة، كما يزول من خاطر الوجود من خلال هذا التقادم في السنين، كما هي هذه القرية التي ربما كانت عاشت تجربة الموت في الزمن السحيق، ما جعل تجربة الموت في جسده، مماثلة لتجربة الّذين ماتوا فيها.
{ثُمَّ بَعَثَهُ} كما كان.
وبدأت الحياة تضجّ في جسده كما لو كانت حالة طبيعيّة مستمرّة في حياته اليومية، لأن الإنسان لا يشعر بثقل الموت عليه في داخل تجربته، فإذا عادت إليه الحياة، فلا مجال للإحساس بشيء جديد في طبيعة ذاته، إلا كما يحسّ الإنسان الذي يستيقظ بعد الموت، ولذلك فلم يشعر بمرور الزمن عليه {قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}، هل هذا القول حقيقيّ ـ كما هو ظاهر الكلمة ـ أو هو شيء يخاطبه من داخل نفسه، أو هو شخص مرَّ عليه في حالته هذه ممن سمع عن هذا الإنسان منذ زمن بعيد، وهل هو حديث مع الله أو مع النّفس أو مع الناس، وهل تكون نسبة البعث إلى الله دليلاً على أنّ القائل هو الباعث؟ كلّ ذلك محتمل {قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}. وما هو سرّ الغرابة في هذه التجربة العادية في حياة الإنسان اليوميّة ليطرح هذا السؤال بهذه الطريقة؟ فليست المسألة إلا ظاهرة نوم طبيعيّ قد يستغرق الإنسان فيه فيشمل اليوم كله أو يقتصر على بعضه.
{قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ}، وهنا كانت المفاجأة الصاعقة، فليست القضيّة قضيّة سبات طبيعي، بل قضية موت محقَّق في مدى القرن من الزمان وبعث جديد. إذاً فهذه هي التّجربة التي كان السؤال يدور حولها، فقد انطلقت في داخل ذاته، لقد مات كلّ هذا الزمن الطويل وأحياه الله من جديد، وكان ـ هو ـ الجواب الحاسم عن سؤاله الكبير، فلم تعد القضية قضية الظاهرة في خارج ذاته، بل في عمقها وامتدادها. ويمتدّ الوضوح به ليجسّد له معنى المعجزة الإلهية في المسألة التي تؤكّد فعلية الحياة بعد الموت من خلال ذلك.
{فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} الذي كان معك {لَمْ يَتَسَنَّهْ} لم تغيّره السنون، فبقي في حيويّة خصائصه وعناصره من دون أن يستهلكه أو يبدّله مرور الزّمن، فإن الذي أبقاه هو الذي منحك البقاء في الحياة من جديد، {وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} الذي كان معك كيف تفرّقت أجزاؤه، وتقطّعت أوصاله، وتبددت عظامه، وكيف نعيدها من جديد. {وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِلنَّاسِ} يعتبرون بها في إيمانهم بالله وبقدرته على إعادة الحياة كقدرته على إيجادها، ويؤمنون ـ من خلالها ـ بالبعث في اليوم الآخر، فيرتفع عن أفكارهم استبعاد ذلك {وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَ} ونرفعها على الأرض لتنضمّ إلى بعضها البعض، في عملية إعادة الحياة إلى الجسد؛ جسدك أو جسد حمارك، لترى التجربة الحيَّة أمامك، فتعيش المسألة التي كانت مجرّد فكرة تبعث على التساؤل في وضوح من الرّؤية الباعثة على اليقين {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} الموضوع الجديد الغريب بكلّ تفاصيله {قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، فهذه هي الحقيقة التي انضمّ فيها الحسّ في تجربتي هذه، إلى العقل في قضيّة الإيمان، فلا مجال لسؤال جديد، إذ لا غموض ولا شبهة في أيّ شيء، بل هو الوضوح كلّه.
*تفسير من وحي القرآن، ج 5.