{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ}، فقد كان لكلّ واحد
من الأنبياء ربيّون، وهم الجماعات الكاملة في العلم والعمل ـ كما قيل ـ { فَمَا
وَهَنُو} أي ضعفوا داخليّاً وانهزموا نفسياً، {لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ
اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُو}، أي لم يستسلموا للعدوّ في ذلّةٍ
وانكسارٍ، بل صبروا في مواقع الجهاد على الآلام والضّغوط والمشاكل والتحدِّيات...
{وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}. فلماذا لا تصبرون مثلهم؟! وكانت روحيّتهم صافية
منفتحة على الله؛ فإذا شعروا في داخل ذواتهم بالجفاف والقسوة، ورأوا أنَّ خطواتهم
بدأت تنحرف عن الطريق بفعل الأجواء الخانقة المحيطة بهم، جلسوا بين يدي الله في
مناجاة روحيّة خاشعة: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ
لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَ}، فقد تجاوزنا الحدود المرسومة لنا
من قِبَل رسلك، وابتعدنا عن الطّريق طويلاً، وبدأت الأرض تهتزّ من تحت أقدامنا
لتزلزل أقدامنا في زلزال الكفر والانحراف، {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَ} في مواقع
الزّلل {وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}، عندما نُجاهد في سبيلك،
فإنَّنا لا نطلب النّصر إلاَّ منك، بتأييدك وعونك ونصرك.
واستجاب الله لهم هذا الدُّعاء الذي يجمع للإنسان ثواب الدُّنيا والآخرة: {فَآتَاهُمُ
اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ}، الذين يعملون له عندما يعملون، ويتوكّلون عليه عندما يجاهدون.
تلك هي الصورة في مجتمع النبوّات السابقة، وتلك هي الصّورة التي يريد الله للمجتمع
المسلم أن يستعيدها في نفسه عندما تضيق به الأمور، وتُحيق به الهزائم، وتجتمع في
آفاقه الأزمات، وتتضافر عليه قوى الشّرّ... فيسأل الله الفرج حيث لا فرج، والمدد
حيث لا مدد؛ فتسكن النفس، ويرتاح اللّبّ، وتثبت الأقدام، وينفتح للحياة على الله
درب طويل لا نهاية له، تخضرّ فيه أرواح، وتنبت فيه كلّ الجنائن الروحيّة الّتي يزهر
فيها الورد، وتتفتح فيها براعم الرّياحين... ويبدأ الإنسان حياته الجديدة الآمنة
المطمئنّة في آفاق الله...
*من كتاب "تفسير من وحي القرآن"، ج 6.