عبَّاد الأوثان هم المشركون الّذين ذكر الله تعالى أنهم من أشدّ الناس عداوة
للمؤمنين، وهذا قوله تعالى في الآية 82 من سورة المائدة: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ
النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ
وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ
إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ
يَسْتَكْبِرُونَ}. ومع هذا، وضع الله تعالى أدباً كريماً للجدال بيننا وبينهم، يقف
به عند حدّ الجدال المقبول، ولا يدخل به في باب الخصومة، لأنّ الإسلام لم يأت ليثير
خصومة بين النّاس، وإنما أتى لإرشادهم بالّتي هي أحسن، وإذا كان هذا هو شأن الجدال
فيما بيننا وبين عبّاد الأوثان، فما أحراه بأن يكون هذا شأنه فيما بين فرق المسلمين،
لأن الخلاف فيما بينهم قريب الحدود، ولا يبلغ درجة الخلاف بينهم وبين عبّاد الأوثان.
وقد ورد أدب الجدال فيما بيننا وبين عبّاد الأوثان في الآية 108 من سورة الأنعام {وَلاَ
تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْواً
بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى
رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، وقد قيل في
سبب نزول هذه الآية: إنّ المسلمين كانوا يسبّون أوثان الكفّار، فيردّون ذلك عليهم،
فنهاهم الله أن يستسبّوا لربهم، فإنهم قوم جهلة لا علم لهم الله.
وقيل إنّه لما نزل قوله تعالى في الآية 98 من سورة الأنبياء: {إِنَّكُمْ وَمَا
تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}، قال
المشركون: لئن لم تنته عن سبّ آلهتنا وشتمها، لنهجونّ إلهك، فنزلت تلك الآية.
والحقّ أن قريشاً قد خفي عليها الفرق بين نقد القرآن لعبادتها لآلهتها، وبين شتمها،
فعدّت نقد القرآن ونقد النبيّ (ص) لعبادتها لآلهتها شتماً لها، وهدّدت بشتم الله
إذا استمرّ ما تراه شتماً لها في زعمها، وقد خفي هذا الفرق أيضاً على كثير من
المفسّرين، حتى قال الفخر الرازي في تفسير الآية: لقائل أن يقول إنّ شتم الأصنام من
أصول الطّاعات، فكيف يحسن من الله تعالى أن ينهى عنه؟ والجواب، أنّ هذا الشّتم وإن
كان طاعة، إلا أنّه إذا كان هذا الشّتم يستلزم إقدامهم على شتم الله وشتم رسوله،
وعلى فتح باب السّفاهة، وعلى تنفيرهم عن قبول الدّين، وإدخال الغيظ والغضب في
قلوبهم، فلكونه مستلزماً لهذه المنكرات، وقع النهي عنه.
ولا عجب أن يخفي على المفسّرين الفرق بين سبّ آلهة المشركين ونقد عبادتهم لها، فإنّ
أهل اللّغة من قريش قد خفي عليهم هذا الفرق، وهم أرباب الكلام، وفرسان الفصاحة
والبلاغة، وعنهم أخذت أحكام اللّغة، ولكنّ هذا فرق علميّ دقيق يخفى مثله على العرب
في أميّتهم وجاهليّتهم، وما كان لمثلهم في هذه الجاهليّة أن يفرّق بين الشّتم
والنّقد، وأن يدرك أنّ مثل قوله تعالى فيما سبق: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن
دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} يدخل في باب النّقد، ولا
يدخل في باب السبّ والشّتم، لأنّه ليس إلا بياناً لعجزها في الآخرة، وأنها لا تقدر
أن تدفع عن نفسها عذاب الله تعالى، وهذه هي حقيقة أمرها، وبيان الحقيقة لا يدخل في
باب السبّ والشّتم، ولا سيّما إذا كان يراد منه تنبيه الأذهان إليها، وإيقاظها من
غفلتها عنها، وكانت هذه الغفلة تجلب عليها الشّقاء في دنياها وأخراها، وكان تنبّهها
إليها سبب سعادتها في الدّنيا والآخرة. ولا يكاد يخرج عن هذا قول بعض المفسّرين: إنّ
هذه الآية تدلّ على أنّ الآمر بالمعروف قد يقبح إذا أدّى زيادة منكر، وغلبة الظّنّ
قائمة مقام العلم في هذا الباب، وفيه تأديب لمن يدعو إلى الدّين، لئلا يتشاغل بما
لا فائدة له في المطلوب، لأنّ وصف الأوثان بأنها جمادات لا تنفع ولا تضرّ، يكفي في
القدح في إلهيّتها، فلا حاجة مع ذلك إلى شتمها.
فهذا التفسير يقرب في آخره من الصَّواب، ويكاد يهتدي إلى الفرق بين نقد عبادة
الآلهة وشتمها، ولولا أنه سمّي نقد عبادتها قدحاً لا نقداً، ولكنّه في أوّله يقع
فيما يقع فيه غيره من إدخال شتم الآلهة في باب الأمر بالمعروف، وأنّه لا يقبح إلا
لأنّه يؤدي إلى شتم الله تعالى، وهذا ينافي حكمه عليه في آخر كلامه بأنّ التّشاغل
به تشاغل بما لا فائدة له في المطلوب، ومثلٌ ليس في شيء من الأمر بالمعروف.
فالله تعالى لا يريد بنهينا عن ذلك إلا أن يبعدنا عن موقف الخصومة في الجدل، لنسلك
به الطّريق الذي يراد منه الوصول إلى الحقّ، ويقصد منه التّمييز بين الحقّ والباطل،
فلا يراد منه إلا الإقناع والإرشاد، وإلا أخذ النّاس في الجدال بالهدوء والرّفق،
حتى لا ينقلب إلى خصومة وتعصّب، يعمى فيهما الحقّ على الناس، ويشتدّ بهما العناد
واللّجاج، وهذا لا يخرج عن كونه تعليماً لنا، ولا يقتضي سبق وقوع شيء منه في القرآن
أو من النبيّ أو من المسلمين.
ولهذا يقول الله تعالى بعد ذلك: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}،
فلا يصحّ أن نصادم شعورهم بشتم ما زيّن لهم، وإنّما يجب أن نقتصر على بيان الحقيقة
في أمره، وأن نترفّق في تفهيمهم قبح ما زيِّن لهم، حتى يعلموا حقيقة حاله، ويصلوا
إلى الصّواب فيه، من غير أن يخرج الجدال معهم عن الأدب اللائق به، وعن الحدود الّتي
تجعله مناسباً لشرف الدعوة، ملائماً لنبل ما تدعو إليه.
ولهذا أيضاً، يقول الله تعالى بعد ذلك، تأكيداً لذلك النّهي عن سبّ آلهتهم، وليدلّ
به على أنّ أمرهم في ذلك يرجع إلى الله تعالى لا إلينا، فهو الّذي يعاقبهم على
شركهم، وليس إلينا هذا العقاب حتى نعاقبهم بشتم أو نحوه، وإنما وظيفتنا الإرشاد
والدّعوة بالتي هي أحسن.
*مجلّة "رسالة الإسلام"، العدد 13.