{فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ}، أي كان المطلوب أن يكون من
هؤلاء القوم الذين عاشوا في القرون السالفة، {أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ}، جماعة جاءت
بعدهم وانتهجت سلوكاً على غير الطريقة التي ساروا عليها {يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ
فِي الأرْضِ}، من موقع المسؤوليّة عن إصلاح الدنيا وتهديم الفساد..
ولكن لم يحدث ذلك، فقد تبع الخلف السَّلف في طغيانه وتمرّده في عمليّة الفساد
والإفساد، {إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ}، من الأنبياء والمؤمنين
الذين اتّبعوهم في الإيمان بالرّسالة، وجاهدوا في سبيل الله، وهؤلاء يمثّلون القلّة
في المجتمع الذي سيطر عليه المترفون بكفرهم وضلالهم، ممن ظلموا أنفسهم ومن حولهم من
النّاس، والحياة التي تحيط بهم، {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ
فِيهِ} من مالٍ وشهواتٍ وأطماعٍ، في ما تدعوهم إليه من ظلمٍ للنّاس، واحتكارٍ
لأرزاقهم، وتحكّم فيهم بما لا يرضى به الله، وانقيادٍ للذائذهم وشهواتهم، واستسلامٍ
لدعوات الشّيطان وخطواته في ما يأمرهم به، أو ينهاهم عنه، وتركهم لدعوة الله في
السّير على الصّراط المستقيم في خطِّ العقيدة والعمل.
{وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} وأيّة جريمةٍ أعظم من الاستعلاء على النّاس، وإفساد
حياتهم، وتدمير عقيدتهم، وإبعادهم عن الله، وتشويه أفكارهم وتصوّراتهم، وإقامة
الحواجز بينهم وبين رسل الله ودعاة الحقّ، إنها الجريمة البشعة، لأنها تمثّل
الاعتداء على الحياة بكلّ روحيّتها وعمقها الإنساني وامتدادها الرّساليّ نحو الله.
*من كتاب "تفسير من وحي القرآن"/ ج 12.