{وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} أي فصّلناه، ونزلناه آيةً آيةً، وسورةً سورةً... {لِتَقْرَأَهُ
عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ}، أي على مهل وتؤدة، ليتفهّموا الفكرة بشكلٍ تدريجيٍّ
عندما ينزل القرآن ليرسم الخطوط العامّة، ويحرّك التفاصيل من خلالها في نطاق
المشكلة الطارئة التي تُعتبر كنموذجٍ لمشاكل مماثلةٍ، أو في نطاق السّؤال الذي
يلتقي بأكثر من علامة استفهامٍ مماثلةٍ، أو ليشجِّع حركةً في آفاق الجهاد، أو
ليقوّي ضعفاً في ساحات الصّراع، أو ليثير جوّاً نفسياً معيناً في مجالات التحدي، أو
ليؤكد موقفاً أو يثبته في حالات الاهتزاز، أو ليعالج قضيةً بارزةً من قضايا الفكر،
أو ليفسح المجال لتشريعات متنوّعة في حركة الواقع الإنساني، أو ليضع المنهج للفكر
والأسلوب والحركة...
وهكذا أراد الله للقرآن أن ينزل ليرافق حركة الرسالة في خطّ الدعوة والجهاد، ليواكب
كلّ مراحلها، وليسدّد خطواتها، ويحلّ لها المشاكل المتحرّكة على أكثر من صعيد، على
مستوى النظريّة والتّطبيق... ليوحي بالحركة ـ النموذج، إلى جانب الفكرة ـ الخطّ، ما
يجعله يمثل حركيَّة الإسلام في امتداد التجربة، وانطلاقته الفكرية والروحيّة، في
حركة الفكر والروح والتشريع.
وبهذا الأسلوب، استطاع أن يربِّي جيل الإسلام الأوّل الذي احتواه القرآن بآياته،
حتى عمّق في داخله أخلاقيّة الرّسالة، وقوّة الإيمان، وفاعليّة الحركة، لأنّ
الإنسان لم يكن منفصلاً في حياته عنه، بل كان يلاحق خطواته أينما كان، ويفرض نفسه
على ذهنه، فلا يستطيع الهروب منه أو الوقوف موقف اللامبالاة أمامه، لأنّ الواقع
الذي عالجه كان يتمثل في صميم حياته.
ولو نزل القرآن دفعةً، لما كان له هذا التأثير التربوي، بل ربّما أهمل الكثيرون من
الناس قراءته نتيجة ضغط أشغالهم، أو وجود بعض الصّوارف الخاصّة التي تمنعهم من ذلك،
كما يحدث للكثيرين من الناس الآن.
وهذا ما ينبغي لنا أن نتمثّله في حركة الدعوة، أو في خطّ الجهاد، أو في ساحة
الصّراع... فنثير القرآن في كلّ موقع مناسب وفي كلّ حالةٍ ملائمةٍ، لنجعل المسيرة
منطبعة بطابعه، ومتحركةً بحركته، في سبيل الوصول إلى الشخصيّة القرآنية المنطلقة من
مفاهيم القرآن وتشريعاته.
وهكذا أراد الله للنبيّ أن يقرأه على الناس بتأنٍّ ومهل، ليتفهّموه بهدوء، ويعيشوه
بعمق، ويبتعدوا بذلك عن طابع السّرعة والانفعال.
{وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً}، أي أنزلناه على مهل، وهذا هو معنى التنزيل في كتب
اللّغة، وبذلك تكون الجملة توضيحاً لما سبق.
*تفسير من وحي القرآن، ج 14.