إلى أبي في ذكراه الخامسة*
قصيدة ضمّنها سماحة العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله (رض) كلّ عاطفة جيّاشة تختزن كلّ محبّة وشعور صاف تجاه الوالد الّذي يمثل رمزاً للعطاء، وكهفاً يلتجئ إليه الأبناء، وحصناً تتكسّر عنده الهموم. فالشاعر السيد (رض) يبرز مدى أشواقه لوالده الّذي يهفو إليه بقلبه وعقله ووجدانه وكلّيته، وفي صحوته وفي أحلامه:
يا أَبي قد تُطِلُّ روحي على الذِّكْرى، وعيناكَ في الكَرَى تَحْضُناني
وأَنا غارِقٌ مَعَ الحُلُمِ النَّدْيانِ أَهفو إليكَ في تَحناني
وبقلبي سِرٌّ يُهَمْهِمُ، يلتاعُ، يُناجيكَ بالنِّدَاءِ الحاني
وبعقلي فِكْرٌ، زَرَعْتَ غِرَاسَ الوعيِ فيهِ بالعِلْمِ والإيمانِ
وبدنيايَ، يا لَدُنيا الحكاياتِ العَذَارى، في فرحةِ الألحانِ
ألفُ حُبٍّ تنسابُ مِنْهُ الينابيعُ صَفَاءً في لَهْفَةٍ وحنانِ
***
يفيض السيد (رض) في قصيدته الرائعة عاطفة، في إشارته إلى تاثير والده في تكوين شخصيته وتغذيتها بالطهر والعلم والبراءة. وما يلفت، استعماله للألفاظ المرنة المطواعة البعيدة عن التعقيد، والمناسبة للذكرى، حيث المفردات لينة، قد أفرغ فيها الشاعر كل أشجانه ومشاعره:
أنتَ علَّمتني الطَّهَارةَ في الحُبِّ وَسِرَّ الإِشراقِ في الألوانِ
يَا لَعفوِ السَّمَاحِ تَنْدى بِهِ الرُّوحُ، فَيَهْمي في القلبِ والوجدانِ
يا لَوَحْيِ البراءَةِ الطّهْرِ تهفو في انسيابٍ ورقَّةٍ واحتضانِ
عِشْتُ عمري في لهفةِ النّورِ في عينيكَ، ألهو في رفَّةِ الأجفانِ
يظمَأُ الحُلْمُ في طفولةِ أيَّامي فَيُروَى من روحِكَ الرَّيَّانِ
كنتُ أصغي وكنْتَ تنسابُ في الكِلْمةِ، يا لَلعطورِ في الأُقْحُوَانِ
كنتَ تحكي الكثيرَ في صمتِ عينيكَ ففيهِ يطوفُ سرُّ الزّمانِ
ويعيشُ الرّوحَ المُنَدَّى مَعَ اللهِ ابتهالاً في لَهْفَةِ الإذعانِ
يا أبي، لن يصيحَ في عقليَ الحُزْنُ فقد روَّضَ الهدى أحزاني
غيرَ أنّي أهفو إليكَ إذا عاشتْ بقلبي مرارةُ الأشجانِ
عَلَّني في التفاتةِ الحُلْمِ ألقاكَ كمثلِ الربيعِ في نَيْسانِ
في اخضرارِ الحنانِ في هَمَسَاتِ الحُبِّ، في لهفةِ الأَبِ الهَيْمَانِ
مثلما كنتُ في الطّفولةِ في أفْقِ شبابي، أراكَ سِرَّ كِياني
***
يضيف الشاعر السيد (رض) ما لشخصية والده من أثر طيب، وما شكلته تجربته من أبعاد وجوانب تركت بصماتها الغنية عليه، فالصور الشعرية جاءت متدفقة وكثيفة، استطاعت أن تبرز ما للعلاقة بين الولد والوالد من غنى وتفاعل وحيوية:
أَنْتَ عَلّمتني، إِذا اشتدَّتِ الآلامُ أن ألتقيْ هُدَى الرَّحْمَنِ
أَنْ أعيشَ الصَّبْرَ الذي يدفعُ العزْمَةَ في السّاحِ، في ثَبَاتِ الجَنَانِ
في انطلاقٍ لا يهزِمُ الرّوحَ فيه ظَمَأُ الجُرْحِ واهتزازُ المَكَانِ
وانفتاحٌ على غَدِ الحقِّ فيما تلتقي فيه رائعاتُ الأماني
فإذا غطَّتِ العواصفُ في اللّيلِ هدوءَ السّهولِ والوديانِ
فسيأتي الصّباحُ يحمِلُ في عينيهِ سرَّ الهدوءِ في الأكوانِ
إنّه الصَّبْرُ يحملُ الوعيَ للسّارينَ في الدّربِ، حُزْمةً من أماني
يَسْقُطُ الجازعونَ في هزَّةِ اللّحظةِ، في فَجْأَةِ الصّدى الرَّنانِ
يحمِلُ الصّابرونَ في الفكْرِ، فكْرَ النّورِ في موعدِ الضُّحى الفتَّانِ
فإذا اللّيلُ عاشَ في بعض دُنْياهُمْ تَلَقَّوْهُ بالصَّباح الهاني
***
أنتَ علَّمتني التّسامحَ إمَّا زلزلَ العنفُ ساحةَ الإخوانِ
قلتَ لي: إنَّ للمحبَّة عمقًا أَرْيَحِيًّا في لهفةِ الإنسانِ
قد يعيشُ الأشرارُ طهرَ الينابيع بعيدًا عن وَحْلَةِ الأدرانِ
فإذا امتدّتِ المَحَبَّةُ بالرّوحِ وعاشتْ بِوَحْيها الشَّفتانِ
أطلعَ الخيرُ وحيَهُ في نداءِ الأَرْيَحِيَّاتِ في القلوبِ الحَوَاني
فإذا بالَّذينَ يَحْيَوْنَ للشّرِّ ويَـجْرُونَ في مدى الشّيطانِ
يفتحُ الحبُّ روحَه في نَجَاوَاهُم فللخيرِ شَهْقةٌ في المَعَاني
كان لي في صفاءِ عينيكَ معنى الصّحوِ في لهفةِ المدى الظَّمْآنِ
كنتَ توحي إليَّ أنَّ نداءَ اللهِ لا يستريحُ لِلأضْغَانِ
كانَ سرُّ الخشوع في لفتاتِ النّورِ، في أَرْيَحِيَّةِ الإيمانِ
حسْبُ نجواكَ روعةً أَنَّها تَخْضَرُّ فـي كـلِّ موعـدٍ لِلْأَذَانِ
في انطلاقٍ يمتَدّ بالأَلَقِ الرُّوحيِّ في الفجرِ في السَّنا الهيمانِ
كلُّ ما في المدى لديكَ امتدادُ الوحيِ في لُطْفِ خالقٍ مَنَّانِ
في الرِّحابِ الفِسَاحِ حيثُ الأعالي البيضُ تختالُ في ربيعِ الجِنَانِ
وعلى اسمِ الصَّلاةِ تنفتحُ الرُّوحُ، وتمتَدُّ، بالدُّعاءِ، اليَدَانِ
يا لَفيضِ الإحساسِ بالفرحِ الرّوحيِّ يسمو في حضرةِ الحَنَّانِ
***
وختم الشّاعر هنا قصيدته بمقطع ينمّ عن رقّة الطبع وجودة المعنى، في تعابير بلاغية رائعة، بالإشارة إلى مدى حبه وشوقه لوالده، وما خلفه غيابه من لوعة وحسرة في النفس.
قصيدة وجدانية تنساب حناناً وعاطفة ورقّة، تجعل منها نصاً شعرياً إنسانياً متكاملاً في كل عناصره وصوره وتحريكه للمشاعر والأفكار والرّؤى:
أَأُناديكَ يا أبي.. ويفِرُّ الحُلْمُ منّي في يقظةِ الوِجدانِ
أيُّ صوتٍ يوحي فتشربُ معناهُ على لفحةِ الظَّمَا الأُذُنَانِ
أيُّ إطلالةٍ من الطَّلْعةِ الـغَرَّاءِ في أَرْيَـحِيَّةِ الإِيمانِ
تلتقيني ببسمةِ الطّهْرِ في الرّوحِ الإلَهيِّ في المدى الرّوحاني
هي إغفاءةٌ مَعَ الحُلُمِ الورْدِيِّ عِشْتَ انفتاحَهَا بافتِنَانِ
في ربيعِ الأشواقِ للهِ للجنّةِ في خُضْرَةِ الأَمَاني الحِسَانِ
عِشْتَ للهِ، وانفتحتَ على اللهِ، وها أنتَ في رحابِ الجِنَانِ
تَرْشُفُ الرَّحْمَةَ الرَّضِيّةَ في لُطْفٍ وتحيا رضاهُ في اطمئنانِ
هي إغفاءَةٌ.. وشدَّكَ للرّضوانِ صوتٌ في ساحةِ الرّضوانِ
كنتَ روحًا يذوبُ في اللّطفِ والخيرِ ويهفو وينتشي ويُعَاني
وأنا ـ يا أبي ـ هنا في الرّياحِ الهُوْجِ، والمَوْجُ هادرٌ في كِياني
أستعيدُ الرّوحَ الّذي زرعَ النّورَ بعيني، والحقَّ في وِجداني
وصفاءَ الرّوحِ الإلَهيّ حتّى يطردَ الحقُّ موكِبَ الشّيطانِ
وأنا ها هنا انطلاقةُ حُلْمٍ في انتظارٍ معشوشبِ الألوانِ
يا أبي عُدْ إليَّ في الحُلْمِ إنَّ الشّوقَ مازال في مدى النّيرانِ
***
قصيدة منشورة بتاريخ: 8/5/1989، من ديوان "على شاطئ الوجدان".
*والد المرجع السيّد محمد حسين فضل الله (رض)، هو العالم الربّاني آية الله السيّد عبد الرؤوف فضل الله (قده).