{ق والقُرْآنِ الْمَجِيدِ}، أي أقسم بالقرآن، أنّ ما توحي به الآيات من حديثٍ عن
البعث والحساب الّذي يقف فيه المؤمنون وجهاً لوجهٍ أمام المسؤوليّة بين يدي الله،
هو حقٌّ لا ريب فيه، لأنه يمثّل صفاء الحقيقة الواضحة التي تفرض نفسها على العقول
والقلوب.
{بَلْ عَجِبُواْ أَن جَآءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ}، ولكنّ هؤلاء القوم يعجبون
ويظهرون الدّهشة والاستغراب من مجيء رسول منذر من بينهم، في وقت يتصوّرون أنّ
الرسول لا يمكن أن يكون بشراً، بل لا بدّ من أن يكون من الملائكة، {فَقَالَ
الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْء عَجِيبٌ}، فلم يكفه أن جاء بالرّسالة، فقد جاء بدعوة
مثيرة للعجب، في غرابتها وابتعادها عن الوجدان المتّزن الذي يقيس الأمور بمقياس
العقل.
{أَئذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ}، أي رجوع يستبعده العقل،
فكيف يتحدّث بذلك من يدّعي سلامة العقل، ويوحي بأنه قد جاءنا ليرفع من شأن العقل
لدينا، ويطوّر وعينا الفكري؟
ولكنّ الله يردّ عليهم كلّ ذلك بمنطق عقلي يضعهم وجهاً لوجهٍ أمام المعادلة
العقليّة التي تقيس الأشياء بأمثالها، ليقف الجميع على القاعدة التي تحكم كل هذه
الأمور:
{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرْضَ مِنْهُمْ}، فيسموتون وتتلاشى أبدانهم وتتحوَّل
إلى تراب تتشابه أجزاؤه، فلا يتمايز جزء منها عن جزءٍ بالنّسبة إلى الناظر العادي
الذي يتأمّل عناصرها الذاتيّة، ولكن الله يعرف كلّ دقائق تلك الأبدان ومواقعها،
بحيث لا يعجزه تركيبها من جديد، دون أن يختلط شيء منها، {وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ}
يحفظ دقائق الأشياء، فلا يسقط منه أيّ شيء يحتاج إلى حفظه، وهو اللّوح المحفوظ، كما
قيل، أو أنّه كنايةٌ عن علمه الّذي لا يغيب عنه شيء.
*من كتاب "تفسير من وحي القرآن"، ج 21.