في هذا البيت الصغير الصغير، وهو بالقصد والمعنى الكبير الكبير، تمَّت جَولة الحُلم وانعقدت جَلوتها، في اللّحظة التي بدأ يدرج فيها طفلان، ما قَصَّ شعريهما جَدُّهما، وتصدَّق بوزنه فِضَّة تُصرَف على إطعام المساكين، إلاَّ ليكون لاسمَيهما تسجيل جديد في صفحة تاريخ الأُمَّة.
لقد شَعر مُجتمع الجزيرة بأنَّ الحسن والحسين هما اسمان جديدان لم تتلقَّط أُذنٌ بعدُ بنداءٍ وجَّهه أحد مِن شيوخ القبائل إلى أيِّ فردٍ مِن أفراد القبيلة. صحيح أنَّهما لفظتان عربيَّتان مشهورتان في اللّفظ والتخاطُب، ولكنَّهما ما كانا مُطلقاً اسمين لأيِّ شخصٍ مشى على صفحات هذه الرّمال .
لقد شعرت الجزيرة بهذا الجديد والتاريخ أيضاً قد شعر. أمَّا الجديد الكبير النائم في عين هذا الجديد الصّغير، فإنَّه بقي كأنَّه النُّعاس الذي يقطب العين فلا ترى، وأنا أرى الآن أنَّ السقيفة في ذلك العهد قد تخبَّأت بهذا النُّعاس، وأنكرت جديداً ينام في الاسمين المُشتقَّين مِن روعة الحُلم، واللّذين يدرجان في البيتين المُوحِّدين بالفهم والصفة .
أمَّا الخمسة الّذين جذبهم القصد واجتذبهم إلى صدره التحسُّب الأكبر، فإنَّهم هم الذين لبثوا يهتمُّون بتأليف النهار الجديد الذي ستكون له شمسه الأُخرى .
مُنذ أنْ هبط الحسين مِن رحم أُمِّه إلى حضنها الوثير، تلقَّفته الأحضان مِن حِضن إلى حِضن، وبقي ينمو ولا يدري أيَّ حِضن هو الأرفه والأوثر، لقد أمَّ الحياة صغيراً ضئيلاً، لم تكن ولادته وهو في شهره السادس إلاَّ نحيلة كنُحول أمِّه في خشبة جَسدها، وما احتاك به مِن زهيد الشّحم والدّم؛ مِن هنا، كانت الولادة نحيفة رهيفة كالمصدر الّذي انزلقت عنه، غير أنَّ الأحضان التي سربلته بأكثر مِن دثار، نشَّطت فيه طاقات عجيبة مِن التدلُّه النفسي الرّوحي، ما شَحَّ انعكاسه على عضلاته وألياف أعصابه، فإذا هو كأنَّه رشأ يملأ البيت حركةً ودلعاً ورواءً، وإذا هو أكثر مِن جاذبيَّة شغف بها المُحيط كلّه؛ مِن ساحة الدار التي تُظلِّلها شجرة واحدة اسمها (الآراك)؛ إلى داخل البيت الذي كانت حيطانه وسقفه ترشح بما لا يعرف مِن أيِّ ضَوْعٍ هو.
لقد راح الفتى يشعر بأنَّه دلاَّعة البيت وهزَّته الصّغيرة، وكانت النشوة فيه تحتار مِن أين تأتيها الإشارة، فبينا يغرق فيها في حِضن أُمِّه كأنَّه حرير مُبطَّن بمخمل، إذا هي في عُبِّ أبيه كأنَّها إعصار يتناحل في نسمة الصّبح، إمَّا في حِضن جَدِّه وتحت عينيه الناضحتين بالحُبِّ، فكأنَّها شعاع دفءٍ هابط مِن كُوَّتين هما مِن بهجة الصباح أنقى وأزهى .
وهنالك حِضن رابع كان يتعب وهو يتلقَّط به ليحتويه، وهو حِضن الحسن أخيه، الّذي يزيده بالعُمر سنة وعِدَّة أشهُر، ولم يكن يعرف الحسين أيَّ طعم كان يتلذَّذ به وهو مضموم إلى صدر أخيه، كأنَّه نَكهة معجونة بسويق لا اسم له.
تلك هي الأحضان التي احتوت الحسين مُنذ أَمَّ الحياة وراح يدرج في البيت، إلى أنْ تركه جَدُّه الكبير في حِضنٍ راح يُفسِّر له بالتدريج كلَّ معاني الأحضان التي احتوته طفلاً، وحضَّرته بدوره لأنْ يكون حِضناً يتناول الرّسالة إلى صدره، وينفخ فيها نفساً مقدوداً مِن صدره المليء بالعُنفوان .
لقد ضاع الحسين في تعيين أيِّ حِضن تدلَّه فيه كان أعطف وأرهف مِن الآخر؟ ولكنَّه في الحقيقة البارزة، كان مُشتقَّاً منها جميعها على توحيد والتزام. لقد ضمَّته جميعها، لأنَّها كلَّها كانت حدوده في المبدأ وفي صيانة الجوهر، أنَّه مِن هذه الصياغة الكبيرة التي احتضنها الطالبيُّون الهاشميُّون، فإذا بها مِمَّن مَرَّ أنَّها في النفس تتفتَّق عن رسالة تفوَّه بها الطالبيُّ الهاشميُّ، فارتدَّت إلى الأُمَّة العظيمة أمانتها المحفوظة في عقل وجُهد نبيِّها العظيم محمد .
إنَّ القصد المنسول مِن هذه الرّسالة التي حقَّقت ذاتها فوق الأرض وتحت ظلال السّماء، هي التي وسَّعت ودفَّأت الأحضان التي انغلقت كلُّها بالتساوي على تعهُّد الحسن والحسين، ليكونا ضِلعين مُخصَّصين لرعاية الخَطِّ الطويل، إنَّما مِن أهل بيت حدوده في سوارٍ مِن نبوَّة أنتجت رسالة تتحدَّد بها الأُمَّة، ويتحدَّد بها الزّمان الجديد، ويتحدَّد بها الإنسان الجديد.
*من كتاب "الإمام الحسين في حِلَّة البرفير".