اليوم: السبت15 ربيع الأول 1445هـ الموافق: 30 سبتمبر 2023

دروس من قصّة طالوت

العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله

وهذه قصّة أخرى من القصص القرآني، الذي أريد به تأكيد بعض المفاهيم التربويّة العامّة في الحياة العمليّة للإنسان، وقد أفاض المفسّرون فيها بما رووه من التفاصيل المتعلّقة بالأشخاص والأحداث والأشياء.

ولكنَّنا نتبع الأسلوب القرآنيّ في طريقة تناولنا للقصّة، فنجمل في ما أجمل، ونفصّل في ما فصّل فيه الحديث، لأنَّ القضيّة في هذه القصّة ـ وفي غيرها من القصص ـ هي قضيّة الفكرة التي توحي بالهدف، لا السّرد الّذي يدفع إلى أجواء الملهاة، فلا بُدَّ من أن نتناول منها الإنسان النموذج والحدث النموذج، في ما نتناوله من تفاصيلها...

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأ مِن بَنِي إِسْرائيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى}، الذين كانوا يشعرون بالفراغ في جانب الواقع الاجتماعي من حولهم، فقد ابتعدوا عن حركة الصّراع، وأصبحوا على هامش مواقع القوّة في النّاس، لأنَّ الذي يربح الموقع المتقدِّم، هو الذي يقاتل الآخرين الذين يملكون السّيطرة الكبيرة بين النَّاس، فيفرضون كلمتهم ورأيهم وسلطتهم على الفئات المستضعفة في المجتمع ـ كما هو واقعهم آنذاك ـ ولهذا جاؤوا إلى نبيّهم الذي أرسله الله إليهم ـ في سلسلة النبوّات الرساليّة ـ ليتحدّثوا معه حول المستقبل الذي يتطلَّعون إليه في حركة القوّة كأصحاب رسالةٍ مفتوحةٍ على قضايا الإنسان والحياة.

فقد انطلقت التوراة في عهد موسى، لتكون قاعدة للتشريع والحكمة والحركة والقوّة، ما يجعل القائمين عليها في موقع الامتياز الكبير على المستوى المادي والروحي.

{إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ}. اختلف المفسّرون في اسمه، فقال بعضهم: إنه صموئيل وهو بالعربيّة إسماعيل، وقيل شمعون، وقيل يوشع، وغير ذلك مما لا جدوى من الحديث فيه. {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله}. وقد جاء عن الإمام الصادق (ع) ـ كما في مجمع البيان ـ كان الملك في ذلك الزّمان هو الذي يسير بالجنود، والنبيّ يقيم له أمره ويثبته بالخير من عند ربّه.

ولعلّ هذا ما دعاهم إلى طلب تعيين الملك، لأنَّ النبيّ لم يكن في هذا الموقع من الناحية الفعليّة. وقد أعطوا حركتهم المبتغاة عنوان القتال في سبيل الله، لأنَّ هذا العنوان هو الذي يمنح الصراع قدسيّته ويخرجه من ماديته إلى عنوان الرّوح، وهو الذي يستثير النفوس ويحوِّلها إلى طاقة عظيمة منفتحة على الإيمان بالله ومنطلقة في سبيله، فكأنها تؤدّي واجباً دينياً في الحرب الدفاعيّة، لا حاجة ذاتيّة في الواقع.

إنَّ الظاهر ـ في هذه المرحلة أو في ما قبلها من مراحل النبوَّة في بني إسرائيل ـ هو توزيع الأدوار بين النبوّة والملك، فللنبيّ دور التوجيه والتربية والدعوة إلى الله والإشراف على تعيين المراكز القياديّة، وللملك دور الحرب والقتال والممارسة العمليّة للقيادة. ولهذا لم يطلب هؤلاء القوم من نبيِّهم أن يقودهم للقتال، كما هو الحال في الإسلام عندما كان النبيّ (ص) أو الإمام هو الذي يقود الجيوش في المعارك الكبيرة، بل طلبوا منه أن يعيِّن لهم ملكاً، يشعر الجميع بأنَّ له حقّ الأمر، ليكون عليهم حقّ الطاعة.

{قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُو}، وكان هذا النبيّ في شكّ من جدّية هذا الطلب، فقال لهم: إنّه يخشى أن لا يستجيبوا للقتال إذا فرضه الله عليهم، {قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله}، فأعلنوا ـ في جوابهم له ـ تصميمهم على القتال {وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَ}، انطلاقاً من واقع الاضطهاد الذي تعرّضوا له، من إخراج الظالمين لهم من ديارهم وأهاليهم، ما يجعل من قضيّة القتال قضيّة ترتبط بالذّات من جهة، وبالعقيدة من جهة أخرى. {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} الّذين ينكصون عهدهم...

وبدأت التجربة: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكً}، فقد عيّن النبيّ القائد، وأوضح لهم أنَّ التعيين من الله لا منه، {قَالُواْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَ} ولم يخفوا اعتراضهم على ذلك، لما يحسبونه أساساً للملك أو للقيادة، {وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ}، وهي القدرة المالية الواسعة التي لا يملكها هذا القائد المعيَّن، في الوقت الذي كانوا يأملون أن يكون القائد أحدهم، لأنهم يرون أنفسهم حائزين على هذا الامتياز، ما يجعلهم أحقّ منه بالملك.

{قَالَ إِنَّ الله اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}، ووقف النبيّ ليشرح لهم أنَّ المال لا يمثِّل قيمة مميَّزة في الملك القائد، لأنَّ القيادة تحتاج إلى قوَّة يقاتل بها، وعلمٍ يخطّط به خطط الحرب والقتال، وكلاهما موجودان في هذا الإنسان الذي زاده الله بسطة في العلم والجسم، {وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}. فالقضيّة، أوّلاً وأخيراً، قضيّة الإرادة الإلهيّة التي تتحرَّك من موقع الحكمة.

ثُمَّ شرح لهم علامة ملكه: {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ}، وهي أن يأتي حاملاً الصندوق الذي فيه السكينة، وهي الإيمان في ما روي عن الإمام محمَّد الباقر (ع)، {وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى من مواريث العلم والحكمة}.

{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ}. وانطلق طالوت، وهذا هو اسم الملك الذي عيّنه النبيّ، ومضى معه جنوده. {قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ}، وبدأت التجربة بين القائد وجنوده، فقد أعلن لهم أنَّ الله قد ابتلاهم وامتحنهم ـ ليختبر انقيادهم ـ بالنّهر الذي يمرّون به، {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ}، فعليهم أن لا يشربوا منه إلاَّ بمقدار غرفة مهما بلغ عطشهم.

وسقط الأكثرون في الامتحان، ووهنت عزائمهم، ودبّ الضّعف فيهم، ووقف المؤمنون المخلصون، ليكون النَّصر لهم في نهاية المطاف.

*تفسير "من وحي القرآن"، ج 4.

مواضيع متعلّقة

تعليقات القرّاء

ملاحظة: التعليقات المنشورة لا تعبّر عن رأي الموقع وإنّما تعبر عن رأي أصحابها

أكتب تعليقك

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو الأشخاص أو المقدسات. الإبتعاد عن التحريض الطائفي و المذهبي.

  • تحويل هجري / ميلادي
  • المواقيت الشرعية
  • إتجاه القبلة
  • مناسبات
  • إتجاه القبلة
تويتر يحذف حساب عهد التميمي تويتر يحذف حساب عهد التميمي الاحتلال يعتقل 3 فتية من الخليل الشيخ عكرمة صبري: من يفرط في القدس يفرط في مكة والمدينة شيخ الأزهر يؤكد أهمية تدريس القضية الفلسطينية في مقرر دراسي حماس تدين جريمة كنيسة مارمينا في القاهرة الهيئة الإسلامية المسيحية: الاعتداء على كنيسة حلوان إرهاب يجب اجتثاثه الحكم على محمد مرسي بالحبس 3 سنوات بتهمة إهانة القضاء الحكم على محمد مرسي بالحبس 3 سنوات بتهمة إهانة القضاء منظمات أممية تدعو لوقف الحرب في اليمن داعش تتبنى هجوم الأربعاء على متجر بسان بطرسبورغ الميادين: مسيرات حاشدة في مدن إيرانية رفضاً للتدخل الخارجي بالبلاد بنغلاديش تستعد لترحيل 100 ألف لاجئ من الروهينغا إلى ميانمار فى يناير/ كانون الثاني وزير ألماني محلي يدعو للسماح للمدرسات المسلمات بارتداء الحجاب صحيفة أمريكية: الولايات المتحدة تفكر فى قطع مساعدات مالية عن باكستان مقتل 3 عمال في إطلاق نار في ولاية تكساس الأميركية بوتين يوقع قانوناً لإنشاء مختبر وطني لمكافحة المنشطات مسلح يقتل عمدة مدينة بيتاتلان المكسيكية علماء يبتكرون لقاحاً ضد الإدمان على المخدرات منظمة الصحة العالمية: السكري سابع مسببات الوفاة في 2030 دراسة: تلوث الهواء يقتل 4.6 مليون شخص كل عام المشي 3 كيلومترات يومياً يحد من تدهور دماغ كبار السن ضعف العلاقات بين المهاجرين ندوة في بعلبكّ: دور الحوار في بناء المواطنة الفاعلة شهرُ رجبَ شهرُ الرَّحمةِ وذكرِ الله لمقاربةٍ لبنانيَّةٍ وحوارٍ داخليٍّ قبل انتظار مساعدة الآخرين السَّبت أوَّل شهر رجب 1442هـ مناقشة رسالة ماجستير حول ديوان شعريّ للمرجع فضل الله (رض) الحجاب واجبٌ وليس تقليدًا اجتماعيًّا في عصر الإعلام والتّأثير.. مسؤوليَّة تقصّي الحقيقة قصّة النبيّ يونس (ع) المليئة بالعبر المرض بلاءٌ وعذاب أم خيرٌ وثواب؟! فضل الله في درس التفسير الأسبوعي
يسمح إستخدام المواضيع من الموقع شرط ذكر المصدر