ولادته ونسبه:
ولد سنة 1267 هجرية في قرية بنت جبيل، بلفظ مؤنّث ابن، مضافاً إلى مصغر جبل، وتوفي ليلة الخميس قريب الفجر 11 شعبان سنة 1304 في بنت جبيل ودفن فيها.
وآل شرارة بيت علم في جبل عامل، ومر منهم الشيخ محمد حسين شرارة، ويحتمل كونهم من القبيلة العربية البدوية المعروفة بالشرارات، والظاهر أن أصلهم من جزين ونزحوا عنها مع من نزح منها من الشيعة، بدليل وجود مكان فيها يدعى عريض بيت شرارة إلى اليوم.
صفاته :
كان عالماً فاضلاً معاصراً محققاً مدققاً فقيهاً أصولياً شاعراً أديباً واعظاً خطيباً فصيحاً، حسن الأخلاق، عالي الهمّة، كثير الحفظ، حسن الخطّ، جميل الصفات، جامعاً لأنواع الكمالات.
وذكره في تكملة "أمل الآمل"، فقال: كان من حسنات العصر، فاضلاً في كل العلوم الإسلامية، خصوصاً في علوم الأدب والفقه وأصوله، وله إلمام بعلمي الكلام والحكمة، قويّ الحافظة جداً، لا ينسى ما حفظ، كثير الاستحضار لكلّ ما قرأه من العلوم والشعر والخطب وتواريخ العلماء وأيام العرب، حسن الأخلاق، كثير التواضع، حسن المحاضرة جداً، كثير المحبة لأهل العلم، كثير الترويج لهم، أبيّ الطبع للغاية، عالي الهمّة، لم يقبل من أحد من علماء عصره شيئاً، ويكتفي بما يرسله إليه أبوه. اهـ.
أحواله :
بعدما حفظ القرآن في خمسة أشهر، اشتغل بعلوم العربيّة في جبل عامل، فقرأ النحو والصرف والمنطق والبيان، وقرأ عليه الطلاب في هذه العلوم، وقرأ المعالم في الأصول، وقرأ شرح ألفيّة ابن مالك لولده بدر الدين، وشرح الرضي على الكافية عدّة مرار في جبل عامل والنجف، وكانت مدة قراءته في جبل عامل اثنتي عشرة سنة، ثم رحل إلى النجف الأشرف سنة 1288، فقرأ القوانين في الأصول وشرح اللّمعة في الفقه، ثم قرأ الرسائل في الأصول، وهو في تلك المدّة يباحث في علوم العربيّة والبيان والمنطق والأصول والفقه، ثم صار يقرأ في الأصول والفقه خارجاً عند علماء العرب والفرس، واختلط بالعراقيّين اختلاطاً تامّاً، أمثال السيّد محمد سعيد حبوبي، والشيخ أحمد ابن صاحب الجواهر، والسيّد مهدي الحكيم، والسيّد حسن الصّدر وغيرهم، وأقام في العراق نحواً من تسع سنين، ثم رجع إلى جبل عامل سنة 1297، وقد أصابه مرض السلّ واستمكن منه، وظهرت أماراته بملازمة السعال وبحّة الصّوت، لكنّه بقي ملازماً لشرب الشّاي صبحاً وعصراً، سفراً وحضراً، الذي ربما كان أحد أسباب عروض السلّ له، أو هو السَّبب، كما عرض ذلك لجماعة من العامليّين الذين اعتادوه في العراق، وهي من البلاد الحارّة، وقد نشأوا في بلاد باردة، فكانوا شهداءه، وكان أوّل رجل شربه في جبل عامل وسماوره أوّل سماور دخلها.
وصادف في جبل عامل حظّاً وافراً، وأقبل الخاصّة والعامّة عليه إقبالاً تامّاً، فنشر بها العلم، وأحيا معالم الدّين، ورفع أعلام الشرع المبين، وجدّد معاهد الشعر والأدب، وأشاع فيها إقامة العزاء لسيّد الشّهداء صلوات الله عليه، بترتيب المجالس الأسبوعيّة في بنت جبيل والنبطيّة وغيرهما، وأنشأ في بنت جبيل مدرسة اجتمع إليها جلّ طلاب العلم الذين كانوا في جبل عامل، وكان يجمعهم كلّ ليلة جمعة، ويسأل كل واحد منهم عن دروسه، ومن لم يحضر يرسل وراءه، وكان يتعاهد أمور الطلبة والمدرّسين، وينحي باللائمة على المقصِّر، وينوِّه بالمجتهد. وبالغ في احترام السادة والأشراف وأهل العلم وإكرامهم وتعظيم العلماء، وحثّ الناس على ذلك، واستعمل الوعظ في المجالس العامّة، وتلاوة خطب نهج البلاغة، وبرع في ذلك، وسنّ مجالس الفاتحة في وفيات العلماء والعظماء، ونظم القصائد في رثاء العلماء، وحثّ الأدباء على ذلك ونشطهم، فاتبعوه، وتليت تلك القصائد في مجالس الفاتحة والمجالس العامّة، وراج سوق الأدب، وحثّ الناس على إطعام الطعام في الثّلاثة الأيّام بعد الوفيات، وكان شديد الوطأة على المتقعرين والمتكبّرين.
وفي عهده، زار الأمير عبد القادر الجزائري قرية ديشوب التي يقطنها المغربة، وهي مجاورة لجبل عامل، فدعاه الحاج محمد البزي، أحد وجهاء جبل عامل، إلى ضيافته في بنت جبيل، فامتنع أوّلاً، فقال له: إن جدّك كان يكرم ذا شيبة شابت في الإسلام، وعليك أن تقتدي بطريقته، فقال له: قد أجبتك. فلما حضر إلى بنت جبيل، وزاره المترجم، ورأى فضله ومعرفته وحسن محاضرته، احترمه كثيراً، وجعل لا يفارقه، وكان كلّما اجتمع بأحد من أهل السنّة من حاكم أو عالم أو غيرهما، يكون حديثه في الغالب مقصوراً على التأليف بين الطائفتين. وسعى في بناء المسجد الكبير في بنت جبيل على ما هو عليه اليوم من أموال المرحومين الحاج محمد وأخيه الحاج سليمان البزي، وكان بانيه المعماري الشهير الحاج حميدي الصفدي ومعاونه صالح الصفدي، وأدخل تحسيناً كثيراً على طريقة التّدريس بالالتزام بتفسير العبارة والاقتصار على ذلك، إلا قليلاً مما يتعلَّق بها. وكانت عادة كثير من المدرّسين الإكثار من ذكر المطالب الخارجة عن العبارة، وإطالة المدَّة في تدريس العلوم العربيَّة، وربما كان أوَّل من درّس القوانين بعد المعالم في جبل عامل.
وكانت العادة فيها تدريس شرح العميدي على تهذيب العلامة بعد المعالم، كما كانت العادة كذلك في العراق قبل ظهور القوانين، وأدخل تحسيناً كثيراً على إقامة العزاء بترتيب المجالس الأسبوعيّة، والوعظ فيها بقراءة بعض خطب نهج البلاغة وما يقتضيه الحال بشكل مؤثّر في النفوس، وقراءة الأحاديث على النحو الذي يتلى في مجالس العزاء في العراق، وكانت العادة القراءة في عشر المحرّم، خاصّة من الكتب المسماة بالمجالس من ترتيب بعض البحارنة المشتملة على الغثّ، إلا ما ندر، وهي عشر مجالس مطوّلة في مجلّد ضخم، لكلّ ليلة من ليالي عشر المحرّم مجلس يبتدئ بذكر خطبة من إنشاء مؤلف الكتاب، أوّلها: أيها المؤمنون المجتمعون، وقصيدة من شعر الخليعي غالباً، وحديث طويل ملفّق مما دبّ ودرج، ولا تكون القراءة غالباً إلا في عشر المحرَّم، وربما تكون في غيره، لكن لا على وجه منظَّم، بل كيفما اتَّفق وصادف، فإذا كان يوم العاشر، قرئ مقتل أبي مخنف أو غيره، ولكنّه كان لا يخلو من زيادات الناسخين والمرتّبين.
وبعد حضوره لجبل عامل، صار يقرأ يوم العاشر مقتل ابن طاووس، واتّبعه أكثر النّاس في ذلك، ولما ألفنا "لواعج الأشجان"، واشتهر وطبع مراراً، صار الناس يقرؤون فيه، وأحضر معه من العراق مجموعة جمعها له بعض قراء التعزية مما يتعارف قراءته هناك، ونسخ الناس منها نسخاً كثيرة وتداولوها، وكان ينسخها الشيخ حسين شمس الدين بأجرة، لكنه كان فيها الصحيح والسّقيم، ولم يكن هو ولا غيره يعلم بسقيمها، ولا يلتفت أحد لذلك لقلة الاطّلاع على التاريخ، وقلّة الاعتناء به عموماً، وبذلك خصوصاً، حتى إنّه كان يعجب ببعض ما يذكر في مقتل أمير المؤمنين من الكلام المشتمل على هذه العبارات: إنّ البرد لا يزلزل الجبل الأشمّ، ولفحة الهجير لا تجفّف البحر الخضمّ، واللّيث يضرى إذا خدش، والصلّ يقوى إذا ارتعش، وأمثال ذلك، مع أنّه من تنميق بعض القراء لا أصل له. ولما ألّفنا "المجالس السنيَّة"، جهدنا أن نجد لذلك ذكراً، ولو في بعض الكتب غير المعتبرة، فلم نجد، وأمثال ذلك كثير يطول الكلام باستقصائه. وكانت هذه الأحاديث تقرأ في العراق على مسامع العلماء، وبمحضر منهم، فلا ينكرها أحد إلا النادر، ولما ألفنا "المجالس السنيّة"، هذَّبناها، والحمد لله، من جميع ذلك، وميَّزنا القشر من اللّباب، والخطأ من الصّواب، وقد طبعت مراراً وانتشرت.
وأدخل تحسيناً كثيراً على الشِّعر والأدب بتغيير أسلوبه عمّا كان عليه، فقد كان أكثر الشعراء العامليّين يقتصرون في الغزل على أسلوب خاصّ، وفي المديح على ألفاظ مخصوصة، كالمكارم والمعالي والماجد والبحر والحبر وأمثال ذلك، وكذلك في الرثاء، فنبّه الأفكار إلى التفنّن في أساليب الشّعر، والتجنّب عمّا ينتقد منه، وعقد لذلك المجالس، وانتقد فيها الأشعار، وفتح باب الانتقاد لغيره، وسنّ للأدباء طريقة جديدة، ما دعا الشّعراء إلى تغيير أساليبه وتحسينه وتهذيبه، وظهر في الأدب العاملي فرق واضح.
وكان له على هذا الفقير مؤلّف الكتاب فضل كبير، بإظهاره العناية بي، والتنويه باسمي في صغر السنّ، وكان والدي (رحمه الله) لما زار العتبات الشّريفة، طلب إليه بنو عمي أن يرسلني إلى العراق، فلما حضر إلى جبل عامل وزاره المترجم، نهاه عن ذلك، وأشار عليه ببقائي في جبل عامل، وقال له إن الذين في النجف لا يفضلونه في التحصيل، ولا يصلون إليه، وكانت إشارته هي الصواب، وقرأت في مدرسته حاشية ملا عبد الله وشرح الشمسية للقطب في المنطق، والمطول في علم البلاغة والمعالم، وشيئاً من الشّرائع قراءة تحقيق وإتقان، وكتبت في حال القراءة حواشي على المطوّل والمعالم وغيرهما، وأذكر أني رأيته في قرية عيتا وكنت في مدرستها، وسني في نحو الثالثة عشرة، فسأل عني، وسألني فيما أقرأ، فأخبرته، فألقى عليّ بعض الأسئلة في النّحو، فأجبته، وأسدى إليَّ بعض النصائح، فعملت بها، ثم دعاني إلى العشاء معه، ثم ألقى عليَّ أسئلة أخرى فأجبته، وسررت بذلك، ولما تحوّلت إلى مدرسته في بنت جبيل، كان يطلب مني إلقاء الأسئلة على بعض الطّلبة الذين كان يجمعهم كلّ ليلة جمعة، وطلب مني القراءة في نهج البلاغة في المجالس العامّة، وتمرّنت في أيامه على نظم الشّعر، وكان يثني على قصائدي إذا تليت في المجالس العامّة، وينشطني كثيراً، جزاه الله عني خيراً.
وفي تكملة أمل الآمل: أنه ترقى في الاشتغال في العراق، وتقدم على جميع طبقته، حتى صار يشار إليه بالأكفّ، وصارت له محبة في قلوب عموم أهل العراق، حتى بغداد والحلة، وشاع ذكره بالفضل والجامعيّة، وترتب على وجوده بعض المطالب الخيريّة، وكان إذا جلس في مجلس، أو ركب في سفينة لزيارة الحسين (ع)، لا يخرج من ذلك المجلس أو من تلك السفينة إلا وهو مالك لقلوب الكلّ، حتى اتفق أنه تكلّم في فضل تعلّم العلم في بعض أسفاره إلى كربلاء، وهو في الطرادة السفينة الصغيرة، فلما رجعنا إلى النجف، ترك جماعةٌ الكسب والتجارة، وصاروا يطلبون العلم ويراجعونه المشورة فيمن يقرؤون عنده، وصار بعض هؤلاء علماء، كالشيخ قاسم قسام، والشيخ علي الخياط وغيرهما.
وبالجملة، كانت فيه جاذبيّة ربانية لربانيته وصفائه، وبينما هو كذلك، إذ عرض له سعال وبحّة في صوته، فأوجب عليه الأطباء إمّا المعالجة أو تغيير الهواء بالذهاب إلى وطنه جبل عامل، فجاء إلى بلاده، ولما اطلع أهل البلاد على فضله وعلمه وكماله في قوتيه العلمية والعملية، أكبّوا عليه، وعرفوا قدره، فتصدّى لإحياء السنن الشرعيّة، وترتب على وجوده ترويج الدين وإعلاء كلمة المؤمنين، وإعزاز الشرع المبين، وصارت البلاد تزهو بنور علمه، وتتضوّع بنفحات قدسه، فاجتمع عنده جماعة يطلبون العلم، فربّاهم وهداهم إلى الطريقة المستقيمة في طلب العلم. اهـ.
مشايخه :
قرأ في جبل عامل على الشّيخ جعفر بن علي آل مغنيّة، ولازمه ملازمة تامّة، وكان هذا الشيخ ماهراً في العلوم العربيّة، مشهوراً بحسن التدريس، وعلى الشيخ مهدي آل شمس الدّين، وقرأ القوانين في النجف وبعض الرسائل على الشيخ مرتضى الأنصاري، وكان المدرّس الأوّل في النجف في الأصول، وقرأ شرح اللمعة عند الفقيه الشيخ عبد الحسين الطريحي، وكان وحيداً في تدريسها في النجف، وكانت قراءته لهذين الكتابين عندهما قراءة تحقيق وتدقيق، ونقل كلام المحشين، وأتمّ قراءة الرسائل على الشيخ ملا كاظم الخراساني مع حاشيته على الكتاب المذكور، وقرأ في الفقه على الشيخ محمد حسين الكاظمي، وعلى الشيخ محمد طه نجف، وكان تلاميذه يومئذٍ لا يزيدون على الخمسة، منهم الشيخ حسين محيي، والشيخ جعفر الشروقي سبط صاحب الجواهر.
مؤلّفاته :
له منظومة في الأصول كبيرة جيّدة، شرع في نظمها حال قراءته على الشيخ ملا كاظم، وأخرى في المواريث.
*من كتاب "أعيان الشيعة"، ج 10.