الواقع أنّنا لا نزال نجد في قضيّة الطائفيّة مجرّد خلاف في قضيّة فكريّة واحدة أو قضايا متعدّدة، فهذه هي الصورة البارزة لهذا الخلاف وهذا الانقسام، وفي الوقت نفسه، نجد أنّ كثيراً من القضايا الأساسيّة التي تتّصل بأصل العقيدة، تمثّل الرابطة الوثيقة التي تشدّ الجميع في وحدة فكريّة رائعة.
وما دامت القضية قضيّة فكر وعلم، فلا بدّ لنا أن ندرسها من هذا الجانب، فنلاحظ أنّ هناك بعض القضايا التي تتّصل بالواقع التاريخي، كما أنَّ البعض الآخر يتّصل بالواقع التشريعي، ولن نعدم بعضاً ثالثاً يتّصل بمصادر التشريع وأصوله.
وعلى ضوء ذلك، لا بدّ أن نعالج الخلاف على أساس الواقع التّاريخي، كما نعالج أيّ قضيّة أخرى تتّصل بالتّاريخ، بهدوء علمي تحليليّ، يلاحظ المصادر التاريخيّة ومدى ما تعطيه من سند ودلالة لأحد طرفي القصّة، ثم يقارن بين هذه المصادر في عمليَّة استنتاج وتحليل ومناقشة، ليصل بعد ذلك إلى الحقيقة الأصليّة، ذلك كلّه بروح علميّة هادئة متّزنة، لا تسمح للعاطفة ولا للرأي المسبق أن يطغى عليها..
أمّا القضايا التي تتّصل بالواقع التشريعي ومصادره، فلن نحتاج إلى كثير من الجهد لنعرف طبيعة معالجتها، وذلك لأنَّنا عشنا في دراساتنا الفقهيّة العامّة هذه القضايا وهذا الواقع، دون أن نجد فيما عشناه أثراً للعاطفة أو للتهريج.
هذا من ناحية عامّة، ولا بدّ لنا لكي نصل إلى ذلك أن تكون الصّراحة رائدنا وهدفنا وأسلوبنا فيما نعرض من أفكار، وفيما نثير من مناقشات، فلا مجال للّفّ والدّوران، ولا مسرح للتّهويش والتهريج، وإنَّما هناك نصوص وحقائق يعرضها كلّ طرف للطّرف الآخر بكلّ نزاهة وإخلاص، ليدرسها كلّ منهما بعمق ودقّة.
فليس هناك شيء يبعد الإنسان عن الوصول إلى الواقع، وإلى الحقيقة العلمية البحتة، كاتّباع المجاملة وملاحظة العواطف والمشاعر الخاصّة، في مجال البحث العلمي، والمناقشة الفكريّة.
إنَّ مجال النقاش العلمي هو التقاء فكرتين على صعيد البحث، دون أن يكون لكلٍّ منهما شخص يمثّلها أو يدافع عنها. وبتعبير أصحّ، دون أن نسمح لظلّ صاحب الفكرة أن يقف حائلاً وحاجزاً بين الفكرتين بمشاعره وعواطفه ورواسبه، وإذا أردنا الاصطلاح الحديث، فيجب أن يكون البحث يجري بروح رياضيّة.
ومن الطبيعي أن يبقى البحث في هذه القضايا مقتصراً على النخبة المفكّرة من الطرفين، لأنّها هي التي تستطيع أن تعيش الصّراع بعقلها وروحها العلمي الرصين، لا بأعصابها وعواطفها، أمَّا العامّة، فيجب أن تبتعد عن هذا المجال، لأنّها لن تستطيع شيئاً إلاَّ إثارة الغبار والضّوضاء في وجوه العاملين على وحدة الفكرة، دون جدوى إلاَّ الضّرر الكبير وفقدان الهدف.
وخلاصة ما نريد أن نقوله في هذه المشكلة: إنَّ علينا أن ننظر إلى آراء المذاهب كما ننظر إلى أيّ قضية فكرية أخرى، فكما نقف في بقيّة القضايا الموجودة على الحياد، دون أن يكون لنا هدف من بحثنا إلاَّ الوصول إلى الحقيقة، ودون أن تؤثّر عواطفنا ومشاعرنا في طبيعة البحث ونتائجه، وفي الجهد الفكري الذي نبذله في سبيل استيعاب حقائق الموضوع ودقائقه، دون أن تفوتنا منه شاردة أو واردة، فكذلك الأمر في القضايا الفكرية التي تتّصل بالطائفيّة فكرةً وأسلوباً.
وأحسب أنَّنا إذا استطعنا أن نصل إلى هذه المرحلة وإلى هذا المستوى الفكريّ، فإنَّ المشكلة ستنحلّ تلقائياً دون جهد أو عناء.
*من كتاب "آفاق إسلامية".