ما معنى أن نوجَد في كلّ هذه العناصر التي تمثّل حركة هذا الوجود؟ هل لنكون فقاعة تنتفخ وتنتفخ ثم تنفجر ولا تترك وراءها شيئًا، أو أنّ وجودنا في إرادة الله، يعني أن نحرِّك القيمة في معنى هذه الإنسانيَّة العميقة الّتي تتمظهر فينا عقلاً يفجّر المعرفة، ثم يتحرَّك ويصارع ويبحث ويكتشف ويدخل في ساحة صراع تتميَّز بأنَّها في وعي العقل حركةُ صراع لا يملك إلا المحبَّة، لأنّ المعرفة مهما انفتحت، ومهما اختلفت، فإنها لا بدّ أن تنطلق من محبّة؛ محبّة العقل.. والعقل عندما يحبّ يبدع، والعقل عندما يحبّ ينتج، والعقل عندما يحبّ يضع القاعدة لبناء الحياة على الأفضل؟!
مسؤوليّتنا تجاه العقل
لذلك، فإنّ هذا العقل الذي أعطانا إيّاه الله، هو من أجل أن نعطي الحياة عقلاً، وتلك مسؤوليّتنا، أيّها الأحبّة، مسؤوليّتنا في هذا الوجود الذي يعطينا الكثير ويريد منّا أن نعطيه.. مسؤوليّتنا هي أن نعقلن هذا العقل، ألا نسمح لهذا العقل بأن تزحف إليه كلّ الطحالب، وأن تزحف إليه كلّ عناصر التخلّف، وأن يتحرَّك الجهل ليأخذ معنى العلم في داخله. مسؤوليَّتنا أن نعقلن العقل، وأن نجعل العقل طاقةً تتحرَّك كما الرّوح تعطي الحياة، ليعطي العقل الحياة معنى المعرفة الحيّة.
وهكذا أرادنا الله عندما خلق لنا قلباً ينبض ويخفق وينفتح هنا وهناك، قلباً يبكي، وليس بكاؤه سقوطاً، ولكنّ بكاءه يمثّل معنى الإنسانيّة في الدّموع، وقيمة الدّموع عندما تتأنسن، أنها تحتضن آلام المتألمين، وتتحرَّك في داخل وجودهم، من أجل أن تعطيهم الرّاحة والطّمأنينة، لا راحة التَّخدير الذي يتخدَّرون به لينتفض الألم بكلّ قوَّة، ولكن راحة الإحساس بالمشاركة الإنسانيّة التي تقوّي للمتألم معنى إنسانيَّته، لتجعله يثق بنفسه ويثق بالحياة.
كم من كلمات القلب النَّابض التي تتحرَّك في مواقع الطّهارة وفي مواقع الصَّفاء، كم من كلمات هذا القلب التي استطاعت أن تعطي النَّاس الّذين لا يثقون بأنفسهم ثقة، وأن تعطي النَّاس الذين يعيشون الضّعف في حالة انهيار، قوّةً روحيَّة! لأنّ معنى أن تكون قويّ الروح، قويّ الإنسانيّة، هو أن تحسّ بوجودك، وأن تعرف كيف تحرّكه وتستثمره، لأنَّ مشكلة فقدان ثقة الإنسان بإنسانيّته، أنها تسقط الإنسان، وأنها تخلق في داخله القلق والحيرة. ولذلك، فإنَّك كلّما أعطيت الإنسان في محبَّتك سكينةً وراحةً وطمأنينة، أعطيته إحساساً بوجوده، وهيَّأته ليكون عنصر إنتاج.
التخلّق بأخلاق الله
وهكذا، أيّها الأحبَّة، أعطانا الله قلباً من أجل أن نصنع منه الحبّ الإنساني الّذي إذا تحرَّك في الحياة، فإنَّه لا يجد أيَّ حاجز يحجزه عن إنسان آخر، لأنَّ المسألة هي أنَّ الحبَّ ينطلق من الله، فالله محبَّة، وعندما تتحرَّك المحبَّة من الله صافية نقيّة طيّبة مطلقة، فأيّ معنى لأيّ حاجز؟!
الله المطلق لا حدود له، والحبّ الإلهيّ عندما يتأنسن، يأخذ شيئاً من معنى أخلاق الله، وفي الحديث عندنا: "تخلّقوا بأخلاق الله". لذلك، كان عليّ (ع) يفكِّر من خلال الحبّ الإلهيّ، عندما كان يقول لعامله مالك الأشتر: "فإنَّ النّاس صنفان؛ إمّا أخ لك في الدِّين، أو نظير لك في الخلق". أن تنطلق، فإذا رأيت النّاس الذين يتّفقون معك في الفكر وفي الخطّ، أمكنك أن تتحرّك معهم في عمليَّة تكامل، من خلال وحدة الموقف، وعندما تجد هناك اختلافاً بينك وبين أحد في فكر أو اتجاه أو موقع، فكّر أنّ إنسانيّتك تحتضن إنسانيّتهم، كما أنّ إنسانيّتهم تحتضن إنسانيّتك.
بالإنسانيّة نحلّ مشاكلنا
من خلال إنسانيّتنا، أيّها الأحبَّة، التي إذا انطلقت من داخل وجودنا ينبوعاً يتفجَّر ويجري ويعطي الخصب والرّخاء، يمكننا أن نحلّ مشاكلنا.
مشكلتنا أنّنا تركنا الإنسانيّة في معنى وجودنا تغور كما يغور الينبوع في متاهات الأرض، واستبدلنا بها وحشيّة سميناها حقداً مقدَّساً، ولا أدري كيف تقترب القداسة من الحقد!
إنها من الكلمات التي أرادت أن تصادر فينا معنى القداسة، حيث جعلْنا الحقد مقدَّساً، والجهل مقدَّساً، والتخلّف مقدَّساً. وهكذا، أيّها الأحبّة، كم قتلَنَا التخلّفُ باسم التقدّم! وكم قتلَنَا الجهلُ باسم العلم! وكم قتلتْنا الوحشيّةُ باسم القداسة!
مشكلتنا في هذه الفوضى من المفاهيم التي تتحرَّك وتنطلق في حياتنا على أساس أنها تمثّل القيمة، ولكنّها في الواقع ضدّ القيمة.
لذلك، أيّها الأحبّة، عندما أعطانا الله هذا القلب، فللقلب مسؤوليَّته أن يحبَّ الآخرين.. وأن تحبَّ الآخرين، أن تلتقي معهم على نقاط اللّقاء.. أن تحبّ الآخرين، أن تتحاور معهم في رحلة الوصول إلى الحقيقة.. أن تحبّ الآخرين، أن تستثير كلّ عناصر الخير فيهم لمصلحة معالجة عناصر الشرّ في داخلهم.
إذا أردتم أن تبغضوا، فعليكم أن لا تبغضوا الإنسان في ذاته، أبغضوا عمله.. أحبّوا الإنسان، حتى الإنسان المجرم، ولكن حاولوا أن تبغضوا جريمته.. إنّنا لا نريد أن نقتل الشرّير، ولكنَّنا نريد أن نقتل شرَّه، ولا نريد أن نُسقِط الكافر، ولكنَّنا نريد أن نسقط كفره..
حتى المستكبر الّذي يعيث في الأرض فساداً، إنّنا لا نفكِّر في أن نسقطه كإنسان، كشعب، كحكومة، إنما نريد أن نسقط استكباره، فإذا ابتعد عن الاستكبار، أمكننا أن نعانقه عناق الإنسان الّذي عاد إلى الخير وإلى التَّواضع بعد وقتٍ طويل.
الطّاقة مسؤوليّة
وهكذا.. وجودنا، أيُّها الأحبَّة، هو وجود العقل في حركة المعرفة، ووجود القلب في حركة الحبّ الإنساني، ووجود الطّاقة؛ هذه الطّاقة التي نملكها في وجودنا، والطاقة التي أنتجناها من خلال حركة الوجود، سواء كانت طاقة علم، أو طاقة جاه، أو طاقة خبرة، أو طاقة مال، أو أيّ نوع من أنواع الطاقة...
هذه الطاقة، أيّها الأحبّة، ليست شرفاً نزهو به، ولكنّها مسؤوليّة نعيشها، والله سوف يسألنا عندما نقف بين يديه كيف حرّكنا هذه الطاقة! وهذا ما جاء به الحديث عن الإمام جعفر الصّادق (ع)، عندما كان يقول: "إنّ الله لم ينعم على عبد نعمة إلا وقد ألزمه فيها الحجّة من الله، فمن منَّ الله عليه فجعله قويّاً، فحجّته عليه القيام بما كلّفه، واحتمال من هو دونه ممن هو أضعف منه، ومن منَّ الله عليه فجعله موسعاً عليه، فحجّته عليه ماله، ثم تعاهده الفقراء بعد بنوافله، ومن منَّ الله عليه فجعله شريفاً في بيته، جميلاً في صورته، فحجّته عليه أن يحمد الله تعالى على ذلك، وأن لا يتطاول على غيره، فيمنع حقوق الضّعفاء لحال شرفه وجماله".
طاقتك مسؤوليَّتك؛ أن تنمّيها وأن تكبّرها، وأن تجعلها طاقة الإنتاج وطاقة الإبداع، وأن تحرّكها في كلّ موقع من مواقع حاجات الإنسان في الحياة.
لصوصٌ من نوع آخر
أيّها الأحبّة، إننا نتحدَّث دائماً عن الأمّة، عن المجتمع، عن الشَّعب؛ هل هناك شيء معلّق في الهواء اسمه الأمَّة؟ هل هناك شيء معلّق في الهواء اسمه المجتمع؟ مَن الأمَّة؟ مَن المجتمع؟ هي أنا وأنت والآخرون. إذا كانت المسألة هكذا، فمعنى ذلَك أنّ في كلّ منّا شيئاً تملكه الأمَّة؛ علمك هو جزء من علم الأمَّة، وعقلك كذلك، وخبرتك كذلك، وطاقتك كذلك... عندما تمنع الأمَّةَ من الطاقة الموجودة فيك، فأنت لصّ تسرق الأمَّة طاقتها.. الأمَّة تحتاج إلى علمك، لأنَّ علمك ليس لك، علمك جزء من علم الأمَّة، وعقلك ليس لك وحدك، وخبرتك ليست لك وحدك... لذلك، أنت تسرق، ولكن ليس هناك قانون يمكن أن يحاكمك على هذه السّرقة. وكم ينطلق اللّصوص؛ لصوص الحريّة، ولصوص الحقّ، ولصوص الأوطان، كم ينطلقون في الحياة من دون أن تكون هناك مادّة قانونيّة تحدّد عقوباتهم! لأنّ المسألة هي كما قال النبيّ (ص): "إنما أهلك الّذين قبلكم، أنَّهم كانوا إذا سرق فيهم الشّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضَّعيف أقاموا عليه الحدّ. وأيم الله، لو أنَّ فاطمة بنت محمّد سرقت لقطعت يدها".
لذلك، نحن في الحياة هنا عمّال الله {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى? رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6]. وفي ضوء ذلك، لا بدَّ أن نعرف أصول العمل، ولا بدَّ أن نعرف ساعات العمل، ولا بدَّ أن نتحمَّل مسؤوليَّة العمل، ولا بدَّ أن نراقب نتائج العمل، ولا بدَّ أن نرصد كيف تتحقَّق أهداف العمل.
مسؤوليّة بناء الحياة
لذلك، كما قلنا في البداية، إنّنا في هذا الوجود الإنساني الكامن في داخل شخصيَّتنا وذواتنا، نتحمَّل مسؤوليَّة أن نبني الحياة، وأن نبني الإنسان؛ أن نبني الإنسان فينا، وأن نبني الإنسان في الآخر، حتى نستطيع أن نحقِّق شيئاً للحياة.. أن لا نترك الحياة، أيّها الأحبَّة، إلا بعد أن نترك شيئاً فيها منّا؛ أن يموت الجسد، ولكن تبقى عصارة العقل الّتي كانت فيه، وعصارة القلب الّتي كانت فيه، وعصارة الطاقة التي كانت فيه، أن تبقى في الحياة.
إنكم تنتجون الكثير من العصير، يذهب القشر ويبقى العصير، ولكنَّ عصيراً واحداً لا نهتمّ به؛ عصير مؤنة السنة، ولكن هذا من مؤنة الحياة، عصير العمر؛ أن تعتصر عمرك، أن تعتصر كلّ دقيقة، كلّ ثانية..
مشكلتنا في هذا الشّرق، أيّها الأحبَّة، أنّ تعابيرنا الأدبيّة تقول نريد أن نقطّع الوقت، أن نضيّع الوقت، أن نقتل الوقت... أليس كذلك؟ ولكن القضيّة هي أن نربح الوقت، أن نعتصره.. هذا الإحساس بالزّمن، أن تحسّ بالدقيقة التي أنت فيها كيف تملؤها تفكيراً وحركةً وحياةً، عند ذلك، سوف لن تضيّع أيّ دقيقة، لأنّ هناك إحساساً بمعنى الدّقيقة في عمرك، ومعنى عمرك في حركة الحياة.
بلد يقتل الكفاءات
من خلال ذلك كلّه، أيّها الأحبَّة، ـ وأخشى أنني أصبتكم بالملل، وأطلت الحديث عليكم ـ كانت هذه المبادرات في هذا البلد، الّذي من خصائصه في كلّ الدوّامة التي يعيشها، أنه بلد يقتل الكفاءات، وأنّه بلد تتحرَّك فيه الطائفيّة من أجل أن تصنّف الناس، لا على أساس أديانهم، فالطائفيّة ليست ديناً، ولكن على أساس عشائريّاتهم وقبليّاتهم وبدويّاتهم، من دون قيم البداوة التي تأخذ اسم الدّين.
أمّا أن يملك علماً، فهذا المركز لهذه الطائفة أو لتلك الطّائفة.. ليست المشكلة الكفاءة، المهمّ أن تشعر الطّائفة بأنّها أخذت حقّها، وليس من المشكل أن نهدر حقّ الناس الّذين يدير هذا الشخص أو ذاك الشخص أمورهم ما دامت الطائفة أخذت حقّها.
ليست القضيَّة أن يأخذ لبنان حقّه، ليست القضيَّة أن يأخذ إنسان لبنان حقَّه، ليست القضيَّة أن يأخذ موقع لبنان من العالم حقَّه، المهمّ أنَّ الطائفة في مجلسها الملّيّ هنا، ومجلسها الملّيّ هناك، في أكثر من غرفةٍ سوداء، تتحرَّك من أجل أن تثير أكثر من مشكلة، من أجل أن تثير أكثر من قضيَّة تفترس الكفاءات.
وربما كانت الطائفيَّة خيراً من الشخصانيّة الّتي بدأنا بها: "ربّ يوم بكيت منه فلمّا صرت في غيره بكيت عليه". كانت مشكلتنا الطائفيَّة، وأصبحت مشكلتنا الشخصانيَّة، وما أدري ماذا ينتج هذا اللّبنان العجائبي في مشاكله بعد الشخصانيّة؛ هل هناك شيء آخر؟! لبنان يبدع تخلّفه، ويبدع مشاكله، ويبدع متاعبه.. ولكنَّ هذا العقل اللّبنانيّ لم يستطع أن يبدع الحلول لمشاكله، وهذه هي مشكلتنا فيما نعيشه في الدّاخل من الشَّيء الذي يختزن ضدَّه، وفي الخارج من الأوضاع التي تمثّل حركة التناقضات، كأنّنا نريد أن نؤكّد نظريّة كارل ماركس في أنّ كلّ شيء يحمل ضدّه وما إلى ذلك.
شمعة وسط الظّلام
أيّها الأحبّة، من عمق جراحنا، ومن عمق آلامنا، ومن عمق صرخة الإنسان فينا، من عمق أحلام هذا الجيل الّذي يعيش الآن، من خلال كلّ أحقادنا، الحيرةَ والتمزّقَ، هذا الجيل الشبابي، جيل عمر العشرينات الّذي أعطيناه من خلال حركة الفتنة تخلّفاً، وأعطيناه من خلال حركة الفتنة حيرةً وتمزّقاً، وأعطيناه من خلال حركة الفتنة ضياعاً، حتى أصبح كلّ العالم يأتي إلى لبنان باعتباره بقرةً حلوباً، وبقي اللّبناني لا يجد في بقرته أيّ نقطة لبن. ولذلك، بدأ اللّبناني يفكّر: كيف يتحرَّك إلى بلاد تملك فيها الأبقار بعض الحليب؟!
إنّنا، أيّها الأحبَّة، من خلال كلّ هذا الواقع الذي عشناه، ومن خلال كلّ هذه الضَّوضاء الثقافيّة والروحيّة والسياسيّة والعاطفيّة، من كلّ هذه المأساة الاقتصاديّة وما إلى ذلك، لينطلقْ بعض الناس هنا وهناك في كلّ هذا الظلام، ليبحثوا عن شمعة وعن عود كبريت، لتكون هناك شمعة، وهنا شمعة، فلعلّ تكاثر الشّموع يعطينا بعض الضَّوء في بلدٍ يدمن قطع الكهرباء في اللَّيل والنّهار. وليست المشكلة هي في هذه الكهرباء المادية، ولكن في قطع الكهرباء عن العقل وعن القلب وعن حركة الحياة..
لذلك، كان بعض الناس يحاول أن يحمل شمعة هنا وشمعة هناك؛ شمعة للأيتام، وشمعة للمكفوفين، وشمعة للصمّ، وشمعة للمحرومين، وشمعة للتّائهين وللضالّين وللجاهلين، وربما أعطت بعض هذه الشّموع شيئاً من الضّوء؛ ضوءاً في قلب يتيم وجد الطّريق نحو مستقبله، ضوءاً في عيني مكفوف وجد بعض النّور في حركته من خلال البصيرة بعد أن فقد البصر، وأعطت بعض الضّوء لبعض الآذان التي فقدت السمع، فأعطتها بعض صوت الضّياء الذي يمكن أن تتعلّم منه.
صنيعة الخيّرين
أيّها الأحبَّة، كلّ هذه المبرّات هي من صنع كلّ الخيِّرين، ومن صنع كلّ الطيّبين من كلّ الأيادي الّتي أعطت، ومن كلّ الأيادي الّتي ساعدت، ومن كلّ الأيادي التي موَّلت، ومن كلّ الأيادي التي وجَّهت؛ إنها لم تنطلق من حالة تقليديَّة، ولكنَّها انطلقت من خلال رسالة.
كنت أقول لكلّ الذين أتعاون معهم في هذا الموقع أو في غيره، إنّنا نعيش التحدّيات. نحن لا نريد أن ننجح، ولكن نريد أن نبدع، نحن لا نكتفي بأن نسير مع السّائرين، ولكنَّنا من موقع إنسانيَّتنا ورساليَّتنا، نريد أن نتقدَّم السّائرين؛ لا تقدّم الكبرياء، ولكن تقدّم الإنسانيَّة في تنافسها عندما تريد أن تتحرَّك في المستقبل.
إنّنا نفكّر ـ ونريد لكلِّ الإخوان أن يفكّروا معنا ـ في أن نكون مستقبليّين. نحن نقرأ في الدّعاء: "اللّهمّ اجعل مستقبل أمري خيراً من ماضيه، وخير أعمالي خواتيمها، وخير أيّامي يوم ألقاك فيه".
لذلك، نحن هنا انطلقنا، وإنَّني أشكر من كلّ قلبي ومن كلّ عقلي، هذا الأخ الطيّب الحاج عبد الحسين بهمن (حفظه الله)، الذي بدأت الرّحلة معه، وكنّا لا نتحدّث إلا في الخير، وكانت روحه روحَ الخير، كان لا يفكِّر في اسمٍ يبحث عنه كيف يبرق بين الأسماء، وكان ولا يزال لا يبحث عن موقعٍ مما استهلكه النّاس من المواقع، كان يبحث عن أن يعيش نفسه في معنى الخير في إنسانيّته، وأن يعيش ربَّه في معنى رضا ربِّه.
لذلك، فقد كانت تجربتي مع هذا الإنسان أنّه لم يكن الخير في حركته مجرَّد شيء تتطلّع إليه في المشاريع التي يساهم فيها، ولكنَّ الخير كان كامناً في داخل عقله وقلبه؛ تحسّه، تشمّه، تذوقه تحتضنه... وعظمة الخير في الإنسان، أنّك لا تحدّق فيه ببصرك، ولكنّك ترصده بعقلك وقلبك.
هذه تجربتي مع الحاج عبد الحسين بهمن (حفظه الله). وتجربتي، أيّها الإخوة، مع كلّ النّاس الذين مدّوا أيديهم إلى هذه المبرّات، أنهم أناس طيّبون.. أنّهم أناس خيّرون، ولكن علينا أن نعرف كيف نكتشف الخير فيهم، وكيف نستثير الطّيبة منهم. أنا أؤمن بالإنسان، حتى الإنسان المغسول بالجريمة، تطلّع إلى أعماقه، فستجد شيئاً من نبع الخير في عمق أعماقه، ولكنّ ركام الظروف والأوضاع هي التي غطّت هذا الينبوع.
لذلك، حاولوا، أيّها الأحبَّة، أن تكتشفوا ينابيع الخير في إنسانيَّة كلِّ إنسان، وقد اكتشفت كثيراً من الينابيع، وقد استطعت أن أطلق الكثير من حركة هذه الينابيع من خلال كلمة طيّبة، ومن خلال موعظة خالصة، ومن خلال احتضان بالعقل وبالقلب. مشكلتنا أننا لا نعرف كيف نحتضن عقل الإنسان وقلبه وروحه، مشكلتنا أنّنا لا نعرف أن نحتضن آلام الإنسان وأحلامه.
التّمريض رسالة
وفي نهاية المطاف، أيّها الأحبَّة، كان هذا المعهد؛ معهد التّمريض الذي توفّرت له ظروف واقعيَّة جيِّدة، وتوفَّرت له إحساسات بالحاجة الكبيرة، لأنّنا في لبنان، هذا الذي يقال عنه إنّه مستشفى الشّرق، هناك فقر في التّمريض، وفي العالم العربيّ، هناك نظرة متخلّفة خاطئة عن الممرِّض والممرِّضات.
نحن نعرف، أيّها الأحبَّة، من تاريخ بداية الدعوة الإسلاميَّة، أنّ النبيَّ محمّداً (ص) عندما كان يخرج إلى الحرب، كان يُخرج معه النساء اللاتي يملكن معرفة بالتَّمريض، ليسقين العطشى، ويداوين الجرحى، وهذا مما اتَّفق عليه المسلمون جميعاً.
ونحن نقرأ في معركة أُحد، أنَّ فاطمة الزّهراء (ع) هي التي قامت بتمريض أبيها رسول الله (ص) في المعركة عندما جُرح في المعركة هناك.
الطّبابة رسالة، والتَّمريض رسالة. لذلك، أقول للممرّضين والممرّضات: لا تكتسبوا الثّقة من كلام الآخرين، ولا تهدموا الثّقة من أنفسكم من خلال كلام الآخرين.
على الإنسان أن يؤصّل الثقة في داخل ذاته، أن يستعير الثّقة من داخل ذاته لا من خارجها، وأن ينفتح بالثّقة من خلال ربّه، عندما يحسّ بأنه يتحرّك في خطّ رسالة، ولا يتحرّك في خطّ مهنة، وإن كان للمهنة معناها في حياة الإنسان.
ثقوا بأنفسكم، أنتم في موقع عبادة، عندما تخلصون لله، وعندما تنفحون على آلام المتألمين، أعطوا المريض من قلوبكم أكثر مما تعطونه من خبرتكم، لأنَّ للقلب دوره الكبير في معنى الشّفاء، وهذه نظريّة طبيّة حقيقيّة، وإن كان لا خبرة لي في الطبّ، لكنّني أسمع ذلك. المسألة هي أن نثق بربّنا، ونثق بأنفسنا، ونحاول أن نستزيد من دراساتنا.
لا تعتبروا عندما تتخرَّجون أنّكم انتهيتم من الدّراسة، ولكنَّكم عندما تتخرَّجون، تبدأ دراستكم، لأنَّ ما درستموه جعلكم تفهمون الأشياء وكنتم لا تفهمونها، وعندما تبدأون بفهم الأشياء، يفتح لكم الطّريق لأن تبدعوا.
لا تكونوا الاستهلاكيّين
هناك كلمة أقولها في نهاية المطاف: إنَّ مشكلتنا في هذا الشَّرق أنّنا مستهلكون؛ نستهلك كلّ شيء، حتى إنّ الكثيرين من الأطبّاء عندنا يستهلكون ما يقرأون.
أنا قلت لبعض أصدقائي من الأطبَّاء، ربما كانت ظروفكم تفرض عليكم أن تستهلكوا وقتكم من خلال حاجات حياتكم، لكن لماذا لا تجعلون من عياداتكم، ولو في هذه اللّمحات الخاطئة، دورةً لكم تدرسون فيها كلّ حالة من خلال أن تبدعوا منها ولو نظريَّة في المستقبل؟! نحن نعرف أنَّ كثيراً من الإنتاجات في عالم الدّواء كانت بالصّدفة.. قد يبحث الإنسان في المختبر عشرين سنة ولا يصل إلى نتيجة، لكنَّ هذا الهاجس في البحث يجعله يكتشف بالصّدفة نتيجة طبيّة تقدّم نفسها إليه دون أن يتعب.
المهمّ أن يكون لدينا قلق المعرفة، أن تكون المعرفة قلقاً ينتج ملاحظة، ينتج بحثاً، وأنا أعتقد أنَّ في أطبّائنا من الذّكاء والخبرة والوعي ما يستطيعون أن ينتجوا النظريّات الطبيّة. قد لا تكون مختبراتنا، قد لا تكون دولتنا معنيَّة بذلك أو جاهزة لذلك، لكن علينا أن نتحدَّى. نحن نعرف أنَّ كثيراً من عقولنا التي عاشت في الغرب، اكتشفت واخترعت وأبدعت، لذلك ليست عقولنا من تراب وعقول الآخرين من ذهب، نملك عقولاً ذهبيَّة في عالم الجنينيَّة الذّهبيّة، ولكنّ المشكلة هي أن نطلق العقل من عقاله، من عقال المهنة، لينطلق في حريّة الإبداع.
كونوا المستقبليّين
أيّها المتخرّجون، أيّها الإخوة والأخوات، نحن في هذه المرحلة الكبرى الخطرة في العالم، محتاجون إلى أن نبدأ رحلة الإنتاج، ورحلة الإبداع، ورحلة صنع المستقبل، أن نصنع المستقبل، وأن نأخذ من كلّ مشاكل الحاضر ما يمكن لنا أن نتفاداه في المسقبل. كونوا المستقبليّين، لا تكون الماضويّين.. للماضي دوره ومسؤوليّته، نأخذ منه ما يبقى، ونبدأ في رحلة المسقبل، لنصنع مستقبلاً يمكن له أن يحلّ أكثر من مشكلة ويطلّ بنا على أكثر من أفق.
أيُّها الأحبَّة، نحن نتحدَّث دائماً عن الجنَّة في حركة الإيمان! ما رأيكم أن نجرِّب الجنّة في الأرض؟ أن نصنع من الأرض جنّة مصغّرة، على طريقة أهل الجنَّة: {ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ إخواناً على سرر متقابلين}، {وتحيَّتهم فيها سلام}؟!.
والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
* محاضرة ألقاها سماحته في تخريج الدفعة الثانية لدورة التَّمريض في مستشفى بهمن، بتاريخ 16-9-1998