في حياتنا العامّة، نعيش مسألة يكثُر الابتلاء بها عند النّاس، وقد تناول القرآن الكريم هذه المسألة، بقول الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[الأنعام: 68 ـ 69].
قد يجلس البعض في مجلس فيه طغاةٌ ومنحرفون، أو ممّن يملكون قوّة في خطِّ الضلال، ويدور حديثٌ في هذا المجلس بطريقة تسيء إلى موقع الإسلام، من خلال الاستهزاء بآيات الله أو أحاديث الرسول (ص)، أو يُسْتَهْزَأ بأولياء الله وبالقيادات التي تنفتح على الله، أو يتحدّث المتحدّثون في أمرٍ لا يرضى الله به، كأن يغتابوا شخصاً تقيّاً وَرِعاً، أو عالِماً مُجاهِداً، أو ينالوا من جهةٍ إسلاميّة مخلصة بطريقة غير لائقة.. في هذا المجلس، يريد الله للمؤمنين، إذا لم يستطيعوا أن يواجهوا الموقف بالدفاع عن الله وحرمات المؤمنين، بأن تكون الكلمة في مواجهة الكلمة، والعنف في مقابل العنف، يريد لهم في هذه الحالة ألّا يجلسوا مع هؤلاء، وأن يُعلِنوا احتجاجهم على ذلك بطريقة الانسحاب من المجلس إلى أن ينتهيَ الحديث ويبدأ حديثٌ آخر، يمكنهم بعد ذلك أن يعودوا إلى المجلس إذا كانت لهم حاجةٌ في ذلك. وعلى هذا، فالإنسان الذي يبقى في المجلس ولا يردّ أو ينسحب، فإنَّ بقاءه يوحي برضاه والاعتراف بهذا الواقع.
{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا}، أي يتحدّثون عن هذه الآيات حديثاً غير مركّز، تماماً كما يخوض الإنسان في الوحول {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}. الإعراض يكون، إمّا أن تخرج مستنكراً، أو أن تُشغِل نفسك بالحديث مع شخصٍ آخر، أو تقطّب وجهك، دلالةً على تأذّيك من كلامهم والاحتجاج عليهم، وهذا إنَّما يكون إذا لم تتوفّر لك فرصةٌ في الخروج {حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}. ويمكنك أن تُقبِل عليهم في الأحاديث الأخرى التي لا تحمل أيّ نقاط سلبيّة.
{وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ}، فإذا بقيت جالساً بسبب الغفلة عن الحكم الشّرعيّ والنتائج السلبيّة التي تحدث من خلال موقفك أو سكوتك أو جلوسك {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}. إذا تذكّرت ذلك، فلا تقعد مع الذين ظلموا أنفسهم بالضّلال بالانحراف والفسق والكفر، وبمعاداة أولياء الله.
وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى في آيةٍ أخرى، حيث يقول سبحانه: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً}[النساء: 140]. وفي هذه الآية، يظهر التهديد أكثر من الآية السابقة التي تطلب الإعراض عن كلامهم، أمّا في هذه الآية، فهنا طلبٌ بالانسحاب من المجلس احتجاجاً إذا لم يغيّروا وجهة الحديث، لأنَّ بقاءكم معهم والسكوت على كلامهم، يعني الرّضا به، "والراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم"، كما يقول أمير المؤمنين عليٌّ (ع) {إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً}، أي لا فرق بين مَن يعلن الكفر صراحةً، ومَن يجامِل الكافر ولا يحتجّ على إساءته للدّين.
وهذه نقطةٌ تنطلق من خطٍّ إسلاميّ إيمانيّ روحيّ، وعلى الإنسان في هذا أن يحترم ويدافع عن انتمائه الإسلاميّ في الحالات التي يستطيع فيها أن ينتصر لله ولرسوله، وإذا كان يملك القوّة في الدفاع، فإنَّه يجب عليه ذلك، ليشعر الآخرون بأنَّ ربَّه ونبيّه وقرآنه وإسلامه ومذهبه، يمثّلون قيمة كبرى عنده، بحيث إنّه يحدّد علاقته بالناس من خلال احترامهم لدينه.
ولا يكفي أن يؤكّد الإنسان احترامه لدينه في نفسه، ولكن أنْ يؤكّد ذلك أمام النّاس، من خلال موقفه ضدّ الذين يحتقرون هذا الدّين ويكيدون له. وفي هذا الموقف تذكير لمن يخوض ويكفر ويستهزئ بآيات الله، بأنَّ هناك مَن يرفض كلامه، إنْ كان بإقامة الحُجّة، أو بإعراض الوجه، أو بالخروج من المجلس استنكاراً واحتجاجاً، حتّى يتراجع عن موقفه ويتوقَّف عن حديثه ويشعر بالذّنب والخطأ فيما تحدّث به.
وبهذا {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[الأنعام: 69]. أنتَ لا تُحاسَبُ عنهم، ولا تتحمّل مسؤولية مواقفهم، ولكن ذكّرهم لتوجّه إليهم صدمة تهزّ حالة الغرور واللامبالاة الموجودة داخل أنفسهم، {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}. فالإنسان المنحرف، والّذي يسخر من آيات الله وعباده المؤمنين، ويهزأ بالمعتقدات المقدّسة، إذا لم يجد من يقف أمامه ويردعه، فإنّه يزداد في طغيانه ويتصوَّر أنّه على حقّ، ولكن إذا سمع ردّاً من هذا وإعراضاً منه، ورأى صدمةً من ذاك، فإنَّه قد يعيد النظر في موقفه.
{وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ} هم يتحمّلون مسؤولية أعمالهم {وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}. فذكّرهم، لعلّ هذه الذكرى تقودهم إلى التفكير، فيعودون إلى التقوى في نهاية المطاف.
*من كتاب "من عرفان القرآن".