العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله
09 شعبان 1444هـ
/ 01/03/2023
قال تعالى:
{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُم}[الفتح: 29].
وقد جاءت [كلمة الرّحمة] في الآية الكريمة التي تحدَّثت عن الأسلوب الليّن المرن الّذي خاطب به النبيّ محمَّد (ص) المشركين من قومه، وعن الروح الوديعة التي انسابت في سلوكه الإنساني معهم، وعن القلب الكبير الذي اتّسع لهم، ففاض عليهم بالحنان والعطف والمحبَّة، لتجعل ذلك كلّه مستمدّاً من الرحمة في الإنسان، وفي الرسالة:
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران: 159].
وجاء الحديث عن الرَّحمة، أيضاً، في الآية التي ركَّزت أساس العلاقة الزوجيَّة في الإسلام على المودَّة والرحمة، باعتبار أنَّ المودَّة تمثِّل العاطفة، في إطار الشعور المتبادل بالمحبّة، بينما تُجسّد الرحمة الفكرة التي تحكم الحياة الزوجيَّة، من خلال تقدير كلٍّ من الزوجين لظروف الآخر، كتجسيد للرَّحمة في إطار العمل والممارسات اليوميَّة لقضايا الحياة:
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}[الرّوم: 21].
وهكذا نفهم من ذلك كلّه، أنَّ الرحمة ليست شعوراً طارئاً يعيش في القلب، ليعبّر عن نفسه في نفحات روحيَّة عاطفيَّة تنهمر في حياة الآخرين الشعوريَّة عاطفة طيّبة ساذجة، بل هي منهج للتعامل وللعلاقات، وللسلوك العلمي العام، بما يتضمَّنه من مراعاة للظروف الموضوعيَّة المحيطة بأفراد المجتمع، ومن مواجهته للعلاقة الإسلاميَّة التي اعتبرت الإيمان بالله وبرسله عاملاً وجدانياً ومعنوياً، يؤاخي بين الناس كما يؤاخي بينهم في النَّسب الذي يجمعهم في ظلّ أب واحد وأُمّ واحدة، كما قال الله تعالى:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات: 10].
ما يؤكِّد لنا أنّ الجانب الاجتماعيّ في التعامل، مرتبط بالجانب الوجداني المتّصل بالإيمان بالله الذي ألّف بين قلوبهم. وعلى ضوء هذا، لا يشعر الإنسان في طبيعة العلاقات بالجانب القانوني الذي يخضع لتوجيهات فوقيَّة تأتي من خارج الذّات، بل يتلمَّسه طبيعياً عفوياً كأيّ علاقة أخرى عفويَّة، أو أيّ تصرّف عفويّ طبيعيّ، تنساب دوافعه الخيّرة من ينابيع الروح الفيّاضة بمعاني المحبَّة والعطاء.
وهكذا نفهم كيف تكون هذه الصّفة
{رُحَمَاء بَيْنَهُم} عاملاً من عوامل التماسك الاجتماعي، وبالتَّالي مصدراً من مصادر القوّة الاجتماعيَّة.
فإذا انتقلنا إلى الصفة الثَّانية في هذه الآية:
{أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ}، نجد العوامل النفسيَّة الموحّدة التي تلتقي بالشدَّة والعنف في الموقف، تجاه الكفّار الذين يمثلون العناصر الخارجيَّة التي تهدّد وحدة المجتمع وسلامته، بتهديدهم للأساس الذي يقوم عليه تماسكه وقوّته، وهو الإيمان بالله وبرسله، فيقفون منهم صفّاً واحداً عنيفاً لمواجهته بشدّة وقسوة، لأنَّ القضيَّة ليست قضيّة دعوة واقتناع، بل هي قضيَّة ردّ للاعتداء، وردع للأعداء، وحماية للمستقبل، وقد صوَّر الله لنا هذا الموقف، في صورة تفصيليَّة، في آية أخرى من آيات القتال:
{إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ}[الصفّ: 4].
وقد نستوحي من هذه الآية، أنَّ هذه الشدّة على الكفّار، لا تقتصر على مواقفهم من المؤمنين، بل تمتدّ وتتَّسع لكلِّ عمل من الأعمال التي يراد بها إضعاف المجتمع من الداخل، بإضعاف إيمانه، أو إضعاف نتائج الإيمان، ولهذا التقت المواقف الإسلاميَّة في دعوتها إلى إعلان الحرب على المنافقين، بالقوّة والأُسس نفسها في إعلان الحرب على الكافرين، كما في قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}[التَّوبة: 73].
فتتكامل - في هذا الموقف الموحّد - الصورة الإسلاميَّة الرائعة للمجتمع، في علاقاته المستندة إلى الرَّحمة والتَّعاون من الداخل ليبني الأساس، وعلاقاته المبنيَّة على الشدَّة والقوَّة والعنف، في الداخل والخارج، ليحمي البناء من الهدم والتصدُّع.
* من كتاب "الإسلام ومنطق القوَّة".