يريد الله أن يثير في وعينا الدّاخليّ، في عقلنا وفي مشاعرنا وفي مواقعنا، أنّ هناك معركة دائمة مستمرّة بيننا وبين الشّيطان، لأنَّ الشيطان أصرّ على أن لا ندخل الجنَّة التي أخرجنا منها، أصرَّ على ألّا نعبد الله لنكون قريبين منه. لقد تعقَّد من تقريب الله لآدم باعتباره مظهر الإنسان الذي جعله الله خليفته في الأرض، وتحوّلت هذه العقدة إلى أن رفض السّجود له من موقع العصبيّة {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}[صـ: 76]. ومن خلال هذه العقدة، عمل على أن يستغلّ بساطة آدم وعدم دخوله في تجربة تجعله واعياً لما يدبّر له، فأخرجه من الجنّة.
ثمّ بعد ذلك، أعلن أنّه يريد أن يكيد لكلّ أبنائه، ولكلّ الناس الذين يتناسلون منه في كلّ المجالات، فهو ـــ في ما يصوّره لنا القرآن ـــ شخصية معقّدة من الإنسان، تدفعه عقدته إلى أن يمنع الإنسان من أن يكون قريباً من الله، ليمنعه من دخول الجنَّة. وهذا ما عبَّر الله عنه في كتابه المجيد: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[فاطر: 6].
ولقد حدَّثنا الله في القرآن الكريم أنَّ هناك شياطين الإنس وشياطين الجنّ، كما ذكر الله في بعض آياته: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُور}[الأنعام: 112]، بمعنى أنّهم يجتمعون من أجل أن يرتّبوا الكلمات التي تثير الحقد والفتن والأضغان والشّرور في ما بين النّاس.
وهكذا رأينا الله في سورة النّاس، يدعو كلّ شخص إلى الاستعاذة بالله من هؤلاء الذين يوسوسون للنّاس، ويربكون تفكيرهم، ويضلّلون مشاعرهم وعواطفهم، وينحرفون بهم إلى الطّريق الذي يؤدِّي إلى النّار: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}[سورة النّاس]، يعني هناك من يوسوس للإنسان في صدره، ليثير فيه الأجواء التي تنحرف به عن الخطّ المستقيم.
لذلك، أراد الله منك أن تقرأ هذه السّورة، عندما تعيش مع رفاقك ومع أصدقائك ومع أقربائك، ومع كلّ الناس الذين تتعامل معهم ويتعاملون معك، لتنتبه إلى أنّه من الممكن أن يكون هناك وسواس خنّاس في داخل هؤلاء، فلا تستسلم لأصحابك كلّهم فتقبل كلّ ما يقولون، ولا تستسلم لأقربائك فتوافق على كلّ ما يقرّرونه، ولا تعمل على أن تغمض عينيك عمَّا حولك لتتبع كلّ ما يخطِّطون، لأنَّ من الممكن أن يكون هناك وسواس خنَّاس في المجتمع ولا يعرفه الإنسان. لذلك، لا بدّ أن تكون حذراً في المجتمع، إلّا مَن ثبت عندك أمانته وصدقه وإيمانه.
لو أنّك عرفت أنَّ هناك عدوّاً لك، فهل تقف موقف الاسترخاء؛ أم أنّك تحتاط لنفسك؟ من الطبيعي عندما تعرف أنَّ هناك عدواً يريد أن يقتلك أو يريد أن يقضيَ على مصالحك، سواء في المواقع السياسية أو التجارية أو الثقافية أو الاجتماعية أو الأمنية، فإنّك كإنسان تحتاط لنفسك في كلّ مواقع الاحتياط، ولا تستسلم للواقع من حولك حتّى تستطيع أن تكتشفه.
وهكذا عملية الاستعاذة من الوسواس الخنّاس هي أسلوب قرآنيّ، يريد الله من الإنسان أن يثق بربّه ويستجير به ممّا لا يعلم، وأن يكون واعياً لا يواجه ما حوله بعقليّة ساذجة وبسيطة.
هناك فرق بين أن تكون طيّب القلب طاهراً، وبين أن تكون ساذج العقل. كن الإنسان الذي يحسب حساب كلّ الكلمات التي يسمعها، وحساب كلّ المواقف التي يريد أن يقفها، وحساب كلّ الأوضاع التي يعيشها الآخرون. كن الإنسان الحذر، وانفتح بقلبك الطيّب على الناس، ولكن لا تدع أحداً يستغلّ طيبتك من أجل أن يتحرَّك لأهداف الشرّ، أو من أجل أن يستغلّك ويستغلّ موقفك بما لا يرضي الله.
*من كتاب "الجمعة منبر ومحراب".