العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله
11 شعبان 1444هـ
/ 03/03/2023
يقول أحد أصحاب الإمام الرّضا (ع)، وهو الحسن بن الجهم: "سألتُ الرضا (ع): جعلت فداك، ما حدُّ التوكّل؟ قال: أن لا تخاف مع الله أحداً" ، فكأن هذا السائل يقول، إنَّ الله يحدِّثنا عن التوكّل، ونحن نواجه الكثير من قضايا الحياة مع هذا الإنسان الَّذي يهدّدنا، ومع ذاك الإنسان الَّذي يخوّفنا، فكيف يكون التوكّل على الله في حركتنا في الحياة أمام الأخطار والضّغوط والتّهديدات؟
هنا يركّز الإمام (ع) أنَّ قضيَّة التوكّل هي قضيَّة معرفتك بالله مقارنةً بمعرفتك بالإنسان وبمعرفتك بالأشياء، فأنتَ عندما تتحرَّك في معرفتك بالله عقلياً، فإنّك تجد أنّ الله هو خالقُ كل شيء، وهو مدبّرُ كلّ شيء، وأنّه المهيمن على الأمر كلّه، وأنه يكفي من كلّ شيء ولا يكفي منه شيء، وأنّه على كلّ شيء قدير، فإذا استوعبت هذه المعرفة بالله سبحانه وتعالى، فإنّك عند ذلك لا تشعر بوجود أحد مع الله، فالوحدانيَّة هناك تجعلك تستغرق في وجدانك العقليّ، بحيث لا تتصوَّر في الوجود إلَّا الله، أمَّا الآخرون، كلّ الآخرين، فإنَّك تنظر إليهم على أنّهم مخلوقات الله، وأنَّ قدرتهم هي من خلال ما أعطاهم من قدرة، وأنّ علمهم هو من خلال ما أعطاهم من علم، وأنَّ حركتهم تنطلق من خلال ما هيّأه لهم من وسائل الحركة. وفي ضوء هذا، فإنّك عندما تتوكَّل على الله، تفرّغ عقلك وقلبك وإحساسك وشعورك من الخوف من أيِّ أحد، وعندما تتطلّع إلى الله وتخاف من عباد الله، فمعنى ذلك أنّك تبتعد بعباد الله عن الله.
وقد يقول قائل إنّ مسألة الخوف هي مسألة القدرة الَّتي نملكها والتي يمتلكها الآخرون، فقد يملكون قدرات ممّا أعطاهم الله سبحانه وتعالى، ولا نملك مثل هذه القدرات، كما إنَّ مسألة الخوف تتحرَّك في الجانب الَّذي يملكونه من القدرة زائداً على ما نملك نحن من القدرة، فكيف لا نخاف؟
إنَّ المسألة المطروحة هنا هي ما نستوحيه من هذه الكلمة ومن الكلمات الأخرى، ذلك أنَّ الله يريد لك أن تتحرَّك بقدرتك، فالتوكّل لا ينطلق من تجميد قدراتك، ثم إذا وصلت إلى نهاية الطَّريق، وجاءتك تهاويلُ نقاط ضعفك، أو تهاويلُ الشَّيطان الذي يخوّفك، توكلت على الله تعالى وقلتَ: يا ربّ، أنت القادر على كلّ شيء، والمهيمن على كل شيء، وقد استعملت كل الأسباب الَّتي وضعتها بين يديّ في حماية نفسي، وفي حماية كلّ قضاياي، هذا ما أستطيع، وأنا أتوكّل عليك فيما لا أستطيع، وعند ذلك، عليك أن تنطلق من اعتقادك أنّ الله سبحانه وتعالى هو المهيمن على الأمر كلّه، فقد تكون حكمته بأن يحميك، وقد تكون حكمته بأن يبتليك، ولكن إيّاك أن تفكِّر في أنّ قدرة هؤلاء يمكن أن تغلب قدرة الله - جلّت قدرته - والله هو الغالب على كلِّ شيء، ولكنّه قد جعل لكلِّ شيء قدراً.
ومن هنا، فإنَّ الخوف شيء، وحركتك في الواقع شيء، ودراستك للواقع شيء آخر، لا تخف أحداً، ولكن اعرف أنَّ لله سنةً في الكون، فإذا غلبك الغالبون، فليس ذلك لأنّ قدرتهم غلبت قدرة الله أو قدرة الأنبياء، ولكنَّ الله سبحانه وتعالى، وهو يتحرّك مع الأنبياء ليؤيّدهم، وهم رسله، يبتليهم بذلك، وهم لا يخافون أحداً، وآية ذلك قوله تعالى:
{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا}[التّوبة: 40]، والمؤمنون كذلك لا يخافون أحداً، وآية ذلك قوله سبحانه:
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[آل عمران: 173 – 175] .
وخلاصة القول، هي أنّ التوكّل حالة في النفس تتمثّل في إفراغ عقلك وقلبك من كلِّ خوف لمن عدا الله، وأن تكل أمرك إلى الله ليدبّر أمرك بحكمته؛ إن شاء يعافيك، وإن شاء يبتليك، فإذا ابتلاك، فليس من خلال أنّ الآخرين غلبوا إرادتك، وإذا عافاك، فإنّ معافاته لك تأتي من خلال حكمته ورحمته. ومن هنا، فإنّ التوكّل على الله لا يعني أنَّك تصل إلى ما تريد دائماً من خلال التوكّل، ولكن معنى ذلك أن تشعر بالقوَّة مع الله لتترك أمرك إليه، كأنّك تقول: يا ربّ، إنّي أوكل أمري إليك لتتصرَّف في أمري، فكما خلقتني برحمتك، ودبّرت أمري بحكمتك، فأنا أكلُ الأمر إليك، لأنّي أعتقد أنّ الأمر أوَّلاً وآخراً إليك. لذلك، فإنَّ المتوكّلين هم الواثقون بالله، والواثقون بأنفسهم من خلال الله، والواثقون بالنَّتائج، سواء كانت منسجمة مع مشاعرهم أو غير منسجمة، لأنّهم يعرفون أنّ الله لا يفعل إلَّا ما هو الحكمة والمصلحة، لأنّه سبحانه وتعالى هو الَّذي خلقنا، فهو الَّذي يعلم ما يصلحنا وما يفسدنا، لأنّه المحيط بالأمر كلّه:
{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الملك: 14].
* من كتاب "النَّدوة"، ج 3..