يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الحجرات: 10].
منذ أن انطلق الإسلام في الدعوة الإسلامية العالمية التي أرسل الله تعالى رسوله بها ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، كان أول عمل قام به النبيّ (ص) في مكة ـ بحسب ما جاء في أكثر من كتاب من كتب السيرة ـ وأكمله في المدينة، هو المؤاخاة بين المسلمين، ذلك أن المسلمين عندما دخلوا في الإسلام كانوا أفراداً، قد لا تربط بينهم أيّ رابطة من النسب أو غيره، فأراد (ص) من خلال وحي الله سبحانه أن يوجد رابطة عضويَّة بينهم، بحيث تكون إخوّة أو رابطة الدين كرابطة النسب، بل هي أكثر ترابطاً، فهي أشبه بالرابطة التي تجمع أعضاء الجسد في الجسم الواحد.
وقد كانت التجربة الأولى أن آخى النبيّ (ص) في شكل مباشر بين المسلمين في مكَّة والذين هاجروا معه بعد ذلك، فقال لفلان إنَّ أخاك هو فلان، بحيث عيّن لكلّ واحد منهم أخاً في إطار الوحدة العام. ويُقال إنَّ عليّاً (ع) بقي وحده، ولم يؤاخِ النبيّ (ص) بينه وبين أيّ صحابي آخر، ما جعل عليّاً (ع) يشعر بشيء من الحزن، فقال له النبيّ (ص): "أما ترضى أن أكون أخاك؟"، وتصبح أخاً لي، وأصبح أخاً لك، كما فعلت مع المسلمين الآخرين، لتتأكّد بذلك الأخوّة بيننا، لأنَّ هذه الأخوة هي أخوَّة ترقى إلى أن تكون عملية اندماج في النسب والروح والرسالة والجهاد؟! قال (ع): "نعم"، فقال النبيّ (ص): "فإنَّك أخي في الدنيا والآخرة"، أي أنها ليست مجرَّد أخوّة مرحلية، لأن العلاقة بيني وبينك ترجع إلى يوم كنت فيه طفلاً أرعاك بكلّ روحي وعقلي وقلبي، حتى نشأ عقلك من عقلي، وقلبك من قلبي، فأنت أخي في الدنيا والآخرة.
وعندما هاجر النبي (ص) إلى المدينة، وهاجر معه فريق من المسلمين، أعاد النبيّ (ص) هذه التجربة، فأكَّد المؤاخاة بين المهاجرين أنفسهم، ثم ربط بين المهاجرين والأنصار الَّذين كانوا يقيمون في المدينة، فآخى بينهم على الحقّ والمساواة، لتكون أخوّتهم على أساس الحقّ الذي يلتزمونه، ليقوموا بالدعوة إليه ونصرته والدفاع عنه وعن أهله، وأن يواسي كلُّ واحدٍ منهم أخاه في الإيمان، بحيث يشاركه ماله وحزنه وفرحه ومشاكله. وقيل إنَّ هذه المؤاخاة كان لها تأثيرها الكبير، وخصوصاً أنّ المهاجرين عندما جاءوا إلى المدينة، تركوا كل أموالهم في مكة وهربوا بدينهم، فكان الأنصاري الذي تآخى مع المهاجر يأتي إلى أخيه المهاجر، ليقول له: ما دمت أخي فلا يمكن أن تبقى فقيراً وأكون على هذا المستوى من الغنى، تعال أشاطرك مالي... وقد حدّث الله تعالى عن هؤلاء فقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ ـ وهم الأنصار ـ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً ـ مضايقة ـ مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر: 9].
وكانت هذه المؤاخاة تعتمد على قاعدة التَّوارث، فيرث الأخ المؤمن أخاه، كما يرث الأخ أخاه في النَّسب، وبقيت الحال كذلك حتى جاءت معركة بدر، فنزلت هذه الآية: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ}[الأنفال: 75]، فنسخت ذاك الحكم، وأصبح الإرث مختصّاً بالأرحام في كلّ طبقة، يتوارث أهل تلك الطبقة بعضهم بعضاً، ولا ينتقل الإرث إلى الطبقة الثانية إلا بعد أن لا يبقى أحد من الطبقة الأولى.
* من خطبة جمعة لسماحته، بتاريخ: 12 رمضان 1424هـ/ الموافق: ٧ تشرين ثاني ٢٠٠٣ م.