العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله
14 شعبان 1444هـ
/ 06/03/2023
يقول تعالى: {ولاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}[النّساء: 29]، فكما لا يحلُّ لمؤمن أن يقتل أحداً إلَّا بحقّ، كما جاء في قوله تعالى: {لَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ}(الإسراء: 33)، كذلك لا يجوز للإنسان أن يقتل نفسه متعمِّداً بطريقة الانتحار، تحت تأثير أيّ حالة نفسيّة أو اجتماعيّة أو عائليّة، لأنَّ الإنسان ليس مسلَّطاً على نفسه، فلا يجوز له أن ينهي حياته بنفسه، ولا يحلُّ له أن يعطي الرّخصة لغيره في إنهاء حياته، حتى في ما يسمَّى بالموت الرَّحيم أو القتل الرَّحيم الذي شرّعته بعض الدول الغربية في تشريعاتها المدنيَّة، والتي أجازت فيها لبعض الأطباء قتل المريض إذا طلب منه ذلك، وذلك عندما يصل به المرض إلى مستوى الآلام التي لا تطاق. فالإسلام لا يبيح للطبيب القيام بذلك. وفي الحديث عن الإمام جعفر الصَّادق (ع): «من قتل نفسه متعمِّداً، فهو في نار جهنَّم خالداً فيها» .
وقد جاء التَّعبير بقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُم}، لتشمل القتل العدواني للنفس وللنَّاس، باعتبار أخذ مجموع المؤمنين كنفسٍ واحدة، لأنَّه إذا قتل نفسه أو غيره، فقد قتل المجتمع، تماماً كما هي أموال المجتمع الَّتي افترض أنَّ التعدّي عليها يعتبر تعدّياً على المجتمع قبل أن يكون تعدّياً على مال الأفراد.
وقد أكَّد الله هذا التَّشريع منطلقاً من رحمته {إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}، باعتبار أنَّ من مظاهر رحمته، أن لا يمنح المؤمن الرخصة في قتل نفسه أو غيره تحت تأثير أيّ حالة ذاتيَّة أو عصبيَّة، لأنَّ الله يحبُّ للإنسان الإبقاء على حياته، ليحقِّق بها إنسانيَّته المنفتحة على حاجاته ورغباته وأهدافه ومسؤوليَّاته. فالحياة هي نعمة الله العظمى الَّتي يريد سبحانه تحريكها فيما يحبّه ويرضاه في قضايا المصير في الدنيا والآخرة.
وقد توحي لنا كلمة الرَّحمة في تشريع هذه الحماية للحياة، بأنَّ الله أراد للرَّحمة أن تتحوَّل إلى نظامٍ عمليٍّ شاملٍ لحياة الإنسان في كلِّ ما يصلحُها ويبتعد بها عن الفساد، لا أن تكون مجرَّد عاطفةٍ وإشفاق، إذ إنَّ بعض النَّاس يفهم من أنَّ فلاناً عنده رحمة، يعني الحالة العاطفيَّة الَّتي ينبض بها القلب. ولكن الرَّحمة في الإسلام وفي التشريع، تمثّل نظاماً عملياً في الحياة، لذا قال الله سبحانه وتعالى عن النبيّ (ص): {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}(الأنبياء: 107). هو ليس رحمةً في ذاته بالمعنى الَّذي أشرنا إليه، وإن كانت ذاته ذات رحمة، ولكنَّه رحمة في رسالته، ورحمة في شرعه، ورحمة في أخلاقه، ورحمة في منهجه في كلِّ مجالات الحياة، لا مجرَّد عاطفة وإشفاق.
* من كتاب "النَّدوة"، الجزء 16.