تحدَّث الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم عن المنافقين في صورهم المتعدّدة في
داخل المجتمعات الإنسانيّة بشكلٍ عامّ، وفي داخل المجتمع الإسلامي بشكلٍ خاصّ. وذكر
المنافقين الذين كانوا يتّخذون النفاق الديني أسلوباً ينفذون من خلاله إلى واقع
حياة المسلمين، ليأخذوا شرعية وجودهم في المجتمع الإسلامي من خلال الصّورة الظاهرة
التي ينتمون في واجهتها إلى الإسلام، ولكنَّ علاقاتهم الخفيّة بالكفر والكافرين
تجعلهم يعملون بكلّ ما عندهم من طاقة في سبيل أن يستفيدوا من انتمائهم الإسلامي، في
تخطيطٍ لما يريد الكافرون منهم أن يخطِّطوا، وفي الاطّلاع على الأسرار الإسلاميّة،
في ما يريد لهم الكافرون أن يطّلعوا على هذه الأسرار، وفي تنفيذ المخطّطات التي
يرسمها هؤلاء ضدّ الإسلام والمسلمين.
الصورة الأولى يقدِّمها الله إلينا في سورة البقرة {
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ
آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ* يُخَادِعُونَ اللهَ
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي
قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا
كَانُوا يَكْذِبُونَ...
}[البقرة: 8 ـــ 10].
هذا النموذج من النّاس يصوّره الله لنا على أساس أنَّ أفراده يعتبرون أنفسهم أذكياء
يتقنون الحيلة ويتقنون المكر والدَّهاء، ويعملون على أساس أن يطرحوا أنفسهم كمؤمنين،
وكمسلمين في السّاحة، ولكنّ واقعهم غير ذلك، يتحرّكون مع المؤمنين بأساليبهم
الخدّاعة وهم يخيّلون إلى أنفسهم أنّهم يخادعون الله. لاحظوا أنَّ الله لم يقل
يخدعون الله. بل قال "يخادعون الله" يعني يتصرّفون مع الله تصرّف المخادع، حيث
إِنّهم يصلّون في المساجد ويتحرّكون في المواقع الإيمانيّة حتّى يخيّل إلى من يراهم
أنّهم من المؤمنين، وبذلك فهم يمارسون أساليب الخداع لتنطلي الحيلة على المؤمنين.
ولكنَّ الله سبحانه وتعالى يقول عنهم: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُم} فهم
يخيَّل إليهم أنّ خداعهم ينطلي على من حولهم، ولكن في الواقع ينطلي على أنفسهم، لأنَّ
الله سبحانه وتعالى يحيط بكلّ خداعهم، ويظهر كلّ خداعهم، ويخطّط لهم من حيث لا
يشعرون.
{فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ}. النفاق حالة مَرَضِيّة في داخل عقل الإنسان، وفي داخل
قلبه، فالإنسان المنافق هو إنسان انتهازي يفكّر في أن يخدم نفسه ومصالحه، ويخيَّل
إليه أنّه يستطيع أن يحافظ على مصالحه هنا ومصالحه هناك؛ فهو مع المؤمنين مؤمن، ومع
الكافرين كافر، فيحقّق لنفسه أطماعه مع المؤمنين لأنه محسوب منهم، ويحقّق لنفسه
أطماعه مع الكافرين لأنّه في العمق منهم، ويعتبر أنّ هذا يمثّل ضرباً من الذكاء ومن
"الشيطنة" التي تتيح له أن يعيش بشكلٍ متوازن بين هذا الفريق وذاك.
لكنَّ الله سبحانه وتعالى يقول، إنَّ هذا المرض الخفيَّ الذي يتمثّل في الحالة
النفاقيّة العقليّة والقلبيّة، هذا المرض الخفيّ يزيده الله سبحانه وتعالى إلى أن
تظهر علاماته في حياة هؤلاء، {
فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ
بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ
}...
*من كتاب "الجمعة منبر ومحراب".