كان الخلفاء من بني أُميَّة ومن بني العبَّاس، يتحيّنون الفرص للوقوف
أمام الأئمَّة في تأدية رسالتهم، ويتفنَّنون في اختراع أساليب الاضطهاد والتعذيب
للأئمَّة وأصحابهم، حتّى كان أهون على الإنسان في بعض تلك الفترات أن يقال له يهوديّ
من أن يقال عنه إنَّه يتشيَّع لأهل البيت (ع).
لماذا كان هذا، مع أنَّ الأئمّة (ع) لم يعلنوا الثورة ضدّ أيّ شخص من هؤلاء، منذ
ثورة الحسين (ع)؟
ولو دقَّقنا النظر، لعرفنا أنَّ السَّبب في ذلك يعود إلى أنّ الثورة التي حمل
الحسين (ع) لواءها، تحوَّلت، نتيجة الظروف، إلى ثورة فكريّة وروحيّة يقودها الأئمّة
(ع) ضدّ الظلم والطغيان والتفسّخ الخلقي الَّذي كان يمثّله الكثيرون من هؤلاء.
وتتمثَّل هذه الثورة في الرسالة التي يحملها الأئمَّة من أهل البيت (ع)، وهي قيامهم
بعرض الإسلام للنَّاس بحقيقته وواقعه، بعيداً من تحريف المحرِّفين وتشويه
المشوِّهين.
الإسلام: الذي يلعن الظّلم والظّالمين، ويصرخ بهم مهدّداً ومتوعّداً، ويدعو
إلى محاربتهم ومقاطعتهم، ويلعن من يتعاون معهم.
الإسلام: الَّذي يعتبر الأُمَّة مسؤولة عن تولّي الظالمين للحكم، لأنّها
تقدّم لهم الطاعة والمعونة على إدارة شؤون الدولة، ما يسهّل لهم مهمّة التحكُّم في
رقاب العباد ومقدّراتهم. وإلا، فما عسى أن يفعل فرد أو جماعة أمام إرادة الملايين
من أبناء الأُمّة الذين لو قاموا بمقاطعته فقط، فلا يلبث حكمه أن ينهار ويتلاشى،
ليُفسح المجال أمام حكم عادل يعمل للمصلحة الإسلاميَّة العليا قبل كلّ شيء؟!
الإسلام: الَّذي يقدّم العدالة الاجتماعية بأروع صورها للنّاس، متمثّلة في
مساواة الحاكم للمحكوم أمام القانون العادل.
ومن الطبيعي أنّ عرض الإسلام بهذه الصّورة المضيئة، يتعارض والمصالح الشخصيّة
لأولئك الذين كانت أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم معلّقة بكلمة تصدر عنهم، أو شهوة
تعرض لهم، من دون أن يحاذروا رقيباً أو حسيباً بسبب الضغط والإرهاب، إضافةً إلى ما
دفعوا إليه المجتمع الإسلامي من الانحدار الخلقي والروحي والفكري.
لذلك كنّا نجد كلّ فرد منهم، لا يكاد يتولّى الحكم، حتّى يكون موقفه من الإمام الذي
يعاصره أوّل ما يفكّر فيه، وفي الطريقة التي يمكنه أن يقضي على الأصوات الخيِّرة
التي تنطلق من الدعوة الإسلامية الصريحة، وعلى التفكير الثوري الذي كانت تعاليم
الأئمّة تركّزه في أعماق الأُمَّة، فكان القتل بالسمِّ وبغيره، وكان الاضطهاد، وكان
التَّعذيب، وكان السِّجن، وغير ذلك من الأساليب التي تعرَّضَ لها الأئمّة (ع) من
جبابرة زمانهم.
ولكن، متى كانت هذه الأساليب تقتل فكرة أو تخنق ثورة؟ ومتى كان الظّلم يستطيع أن
يحجب الشّعاع الخيِّر المنطلق من نفوس المصلحين وعقولهم مهما أثار من الغبار، ومهما
حشد من الضَّباب.
نحن بحاجة ماسَّة إلى دراسة حياة الأئمّة من أهل البيت (ع)، لأنَّ مثل هذه الدّراسة
تلتقي بآفاق جديدة في العلم والدّين والأخلاق والسلوك والنفس والمجتمع، كما أنّها
تستطيع أن تعطينا حلولاً كثيرة لما نجابه من مشاكل فكريَّة وروحيَّة، وتبعدنا عن جوّ
السطحيَّة والسذاجة اللّتين لا نزال نعالج مشاكلنا على أساسهما.
علينا أن نضع أيدينا على المعين الصَّافي الذي انطلق منه الإسلام وعاش فيه، ولن نجد
إلَّا الريّ لظمأ المعرفة الذي يملأ أرواحنا وأفكارنا، ولن نحصل إلَّا على الراحة
والطمأنينة، والتخلُّص من القلق النفسي الَّذي يعصف بحياتنا، ويبعثر خطواتنا في
دربنا الطويل.
* من كتاب "في رحاب أهل البيت (ع)"، ج 1.