يقول تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
لاَ تَخُونُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَاناتِكُمْ وَأَنتُمْ
تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ
اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[الأنفال: 27-28].
إنّه النّداء الّذي يدعو المؤمنين إلى اعتبار الإيمان عهداً بين المؤمن وبين الله
ورسوله، بإخلاص العبوديَّة لله، وإسلام الحياة كلّها له، والالتزام بالشريعة التي
جاء بها رسوله، والعمل على تحقيق الأهداف الكبرى التي أراد الله للحياة أن ترتكز
عليها في مضمونها الروحي والماديّ، وفي حركتها الجهادية في مواجهة كل تحديات الباطل،
من أجل إقامة الحق في واقع الإنسان، كما يدعوهم إلى الإخلاص للأمانات الفردية
والاجتماعية، فيما يأتمن به الأفراد بعضهم بعضاً في قضايا المال والعرض والنفس
والسرّ، وفي ما يتحمَّلونه في نطاق المجتمع من مسؤوليات سياسية أو اجتماعية
واقتصادية وعسكرية، ممّا يعتبر في مستوى الأمانة العامّة، من أجل سلامة الأمَّة في
قضية المصير. وبذلك، يكون الفرد المؤمن هو الفرد الأمين على قضايا الناس والحياة،
ويكون المجتمع المؤمن هو المجتمع الَّذي يعتبر الأمانة بمثابة المسؤولية عن كلّ شيء
يتّصل بالآخرين في إطار طاقاته، والقاعدة الصلبة التي يرتكز عليها وجوده، بينما
يعتبر الخيانة الفردية والجماعية خارجةً عن الخطّ المستقيم، ومنفصلةً عن البناء
المتماسك للوجود الإيمانيّ الإنسانيّ في الحياة.
وهذا ما أثارته الآية الكريمة في هذا النداء: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، في
ما يوحي به الإيمان من عمق الالتزام وامتداده وقوّته. {لاَ
تَخُونُواْ اللهَ}، في ما تفرضه حقيقة الألوهية والوحدانية من إخلاص
العبودية له، {وَالرَّسُولَ} في ما يعنيه
الإيمان بالرسالة من الالتزام بالمفاهيم العامَّة التي تدعو إليها، والتعاليم
الشرعية التي تأمر بالخير، وتنهى عن الشرّ، وتدفع إلى الحقّ، وتُبعد عن الباطل، فإنّ
خيانة الله والرسول في ذلك تعني الكفر والضَّلال. {وَتَخُونُواْ
أَمَانَاتِكُمْ}، فإن الله يريد للحياة الاجتماعية أن ترتكز على الثقة
المتبادلة بين الأفراد، القائمة على الإخلاص في حمل الأمانة وفي تأديتها إلى أهلها،
من دون فرق بين الأمانات الشخصية المتمثلة بالالتزامات الذاتيَّة التعاقديَّة بين
الأفراد، وبين الأمانات العامَّة المتمثلة بالتشريعات الإلهية في المسؤوليَّات التي
حمّلها الله للناس. {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}
قيمة العهد الإلهي والرسالي في خطّ الإيمان، والعقد الفردي والجماعي في دائرة
الأمانة، وإذا كنتم تعلمون ذلك، فإن العلم يمثّل الحجَّة البالغة التي لا تملكون
معها أيّ لونٍ من ألوان العذر فيما لو انحرفتم عن الطريق المستقيم.
{وَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ
فِتْنَةٌ}. فليست الأموال امتيازاً ذاتياً للطغيان والتجبّر، وليس
الأولاد منحةً شخصيَّة للشعور بالقوَّة والخيلاء، بل هي أمانة في مستوى المسؤوليَّة،
ونعمةٌ في مستوى الامتحان. فقد أراد للأموال أن تكون من حلال، وأن تصرف في الحلال،
كما أراد للأولاد أن يكونوا مؤمنين صالحين عاملين بما يرضي الله ويصلح النَّاس.
فالأموال والأولاد فتنةٌ، يُفتن الإنسان بها ويُختبر، ليُعرف ما إذا كان يقوم
بمسؤوليَّاته بما يستوجب مرضاة الله أو بما يستوجب سخطه، فإذا قام الإنسان فيها
بطاعة الله، فإنَّه سيحصل على الثواب الكبير منه.
{وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}، لمن
آمن به وأخلص له الإيمان والطَّاعة.
وهكذا يعتبر القرآن ملكيَّة المال وظيفةً إنسانية، لتحويله إلى طاقة حيّةٍ منتجةٍ
من أجل بناء الحياة والإنسان، كما يعتبر الأُبوَّة للأولاد رسالةً يؤدّي أحد
الأبوين - أو كلاهما - من خلالها مهمّته، ويقوم بدوره في تربية الأعضاء الفاعلين
للأمَّة الذين يعملون من أجل المعاني الروحيَّة والإنسانيَّة التي جاءت بها
الرسالات الإلهيَّة إلى العالم.
* من كتاب "النَّدوة"، ج 16.