يريد الله سبحانه أن نعيش الصَّبر بكلِّ قوَّة وبكلِّ انفتاح وبكلِّ
وعي؛ الصَّبر على جميع المستويات: الصَّبر على الطّاعة، والصَّبر عن المعصية،
والصَّبر على البلاء. وقد جعل الله الصَّبر أساساً لرضاه، وأساساً للقرب منه. يقول
تعالى في كتابه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ
الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ
وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ
إِنَّا للهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن
رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[البقرة: 155 – 157].
فالإنسان يواجه في هذه الحياة الكثيرَ من التحدّيات والمشاكل والمآسي التي يشعر
فيها بالخوف تارةً، والجوعِ تارةً أخرى، والموتِ ثالثةً، فيريد الله من الإنسان أن
يقف وقفة إيمانٍ واعٍ، يعرف بها أنّه تعالى قد أقام الحياة على أساس السّنن التي
أودعها فيها، فليست هي عسراً كلّها، وليست يُسراً كلّها، بل هي العسر في طريق
اليُسر، واليُسر في نهايات العُسر ونتائجه، فإذا واجه الإنسان بعضاً من العسر في
طريقه إلى الله - وكُلّنا في الطّريق إلى الله - أو ثقلت عليه الأعباء، فلا بدَّ له
من الاستعانة بالصَّبر، ليدعم إرادته ويقوِّيها من أجل الحصول على الموقف الصَّلب
المتوازن، والشّخصيَّة المتماسكة.
{ولنَبْلُوَنّكُم}، أي نختبركم في حجم الإرادة
التي تملكونها {بشيءٍ مِنَ الخوْفِ} الذي
يتحدَّى الأمن الداخلي في نفوسكم، فلا تملكون الطّمأنينة الروحيَّة، والأمن الخارجيّ
في حياتكم، فتعيشون الاهتزاز الجسديّ في كيانكم، والخطر السياسيّ والاقتصاديّ
والعسكريّ في نظامكم، {وَالْجُوعِ} أيضاً
نبلوكم به، وهو الحرمان الغذائيّ الضَّروريّ، {وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ} في
الخسائر المتنوّعة التي تصيب الإنسان بفعل الكوارث أو الحروب أو ما إلى ذلك
{وَالأنفُسِ} من رجالكم ونسائكم وأطفالكم
الّذين تقضي عليهم الحروب والأمراض والزّلازل والبراكين والكوارث الجويّة أو
البحريّة أو البرّيّة... {وَالثَّمَرَاتِ}
التي تمثّل ارتفاع البركات من حياة الإنسان، {وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ} الذين يعيشون صلابة الموقف، وقوّة التحمّل، والتمرّد على
الحرمان، والثّبات في مواقع الزّلزال، ليتابعوا رسالتهم في الحياة من دون تراجعٍ أو
انهيارٍ أو انحرافٍ.
هو اختبارٌ ينطلق من إرادة الله وقضائه وقَدَره، من خلال الأسباب والقوانين
الطبيعيَّة الَّتي أودعها الله في الكون، فلا بدَّ للإنسان من أن يتألّم إذا عاش في
الظّروف التي تفرز الآلام، وأن يجوع إذا تحرّكت أسباب الجوع، وأن يخاف إذا فرضت
الحياة أجواء الخوف.
وأمام ذلك، تنطلق البشارة للصَّابرين {الَّذِينَ إِذَا
أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ} من خلال أسبابها الطبيعيّة في إرادة الله،
{قَالُواْ إِنَّا
للهِ} فنحن ملكه، نخضع لإرادته، {وَإِنَّـا
إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، فكُلّنا في الطَّريق إلى الله، و{كلُّ نفسٍ ذائقةُ
الموت}[الأنبياء: 35].
فما هي هذه البشرى؟ {أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ
مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}، فالله يصلّي على المؤمنين كما يصلّي على
رسوله (ص). والصَّلاة من الله هي رأفته بعباده، ومغفرته ورعايته لهم، وتفريج كربهم،
وقضاء حوائجهم. {وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}الّذين
توازنوا في طريق الحقّ، وتحمَّلوا كلّ مصاعبه وآلامه، وتقرَّبوا إلى الله في ذلك
كلِّه، ليصلوا إلى مواقع القرب عنده، ومواطن الرّضا لديه.
* من خطبة جمعة لسماحته، بتاريخ: 14 صفر 1431 هـ/ الموافق:
٢٩ كانون الثّاني٢٠١٠م.