قال تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ
وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ
رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي
وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ
فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ
اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً
عَظِيماً}[الفتح: 29].
نجد في هذه الصّورة الواقعيَّة للمجتمع الإسلامي النبويّ، الشّعور العميق بالرَّحمة
التي تمثّل الصّفة الوديعة للمجتمع، ليتحوَّل إلى منهج للعاطفة وللسّلوك، يتمثّل في
حياتهم شعوراً بالمسؤوليَّة التي تتحرّك في علاقاتهم العمليَّة، حتى نرى الفرد منهم
يؤثر أخاه في الله على نفسه، فيما حدَّثنا الله به عن علاقة مجتمع الأنصار المسلمين
بالمهاجرين الَّذين جاؤوا من مكَّة، لينضمّوا إلى المجتمع الإسلامي الجديد الموحّد،
ليزدادوا بإخوانهم قوَّة من بعد ضعف، وليزيدوا إخوانهم قوَّة على قوَّتهم، بما
يملكونه من طاقات العلم والإيمان والشَّجاعة المميّزة، وذلك هو قوله تعالى:
{لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن
دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَاناً
وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ
تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ
إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ
عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر: 8 ــ 9].
إنّه الشعور بالمحبَّة والتعاطف والانفتاح على القادمين الهاربين بدينهم، المضطهدين،
الَّذين نصروا الله ورسوله، وصدقوا فيما عاهدوا الله عليه، فأخرجوا من ديارهم
وأموالهم من أجل الله، وهاجروا ابتغاء فضل الله ورضوانه، فهم القوَّة الجديدة
للمجتمع الإسلامي الجديد. وها هم أفراد هذا المجتمع من الأنصار، يستقبلونهم بقلوب
واسعة فسيحة لا تضيق عن أحد، ولا تحسّ بأيّ ثقل أو عناء من ذلك، بل تتحرّك ـــ مع
هذا ـــ في اتّجاه المشاركة العمليَّة، حتّى الإيثار، مع الفقر والحاجة، لا مع
الغنى والاكتفاء، فهم يجوعون ليشبع إخوانهم، ويظمأون ليرتووا، ويتعبون ليرتاحوا.
وقد نفهم من أجواء الآية التي تنطلق من قاعدة الإيمان، لا من قاعدة أخرى طارئة، أنَّ
هذا الإيثار لا يخضع لعاطفة ساذجة، أو لنوبة من نوبات الكرم العربي الأريحي المشدود
إلى الحميّة الذاتيَّة، بل يخضع للروح الإيمانيَّة الواعية التي تركّز القاعدة
الروحيَّة العمليَّة للمجتمع الإسلامي الجديد الَّذي يعتبر ذلك كلّه من مسؤوليَّة
أفراد المجتمع كافّة.
وقد نستطيع أن نفهم من كلمة الرَّحمة، الامتداد الرسالي للمعنى الذي يتَّسع للأسلوب
الإنساني في العلاقات والمعاملات، انطلاقاً من الاستعمالات المتنوّعة لهذه الكلمة،
فقد جاءت في الآيات التي تتحدَّث عن طبيعة الرسالة وحركة الرسول، لتعتبر القضية
كلّها لا تعدو أن تكون لوناً من ألوان رحمة الله للعالمين:
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107].
* من كتاب "الإسلام ومنطق القوّة".