يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107]. وامتدت
هذه الرحمة الرسولية التي أفاض الله بها على العالم كله، ليُخرج الناس من الظلمات
إلى النور، وليجعل العالم كله يعيش في سلام مبنيّ على عدل يشمل كلَّ الناس، لأنَّ
الله تعالى جعل منطلق الرسالات كلّها وغاياتها القيام بالعدل.
وقد عاش النبيّ (ص) منذ أن أرسله الله تعالى بالرسالة، وهو يتحرَّك من أجل تأكيد
عقيدة التوحيد، وإسقاط عقيدة الشرك التي تمثّل العقلية المتخلّفة، وخصوصاً في عبادة
الأصنام التي كان يلتزمها المشركون، عندما كانوا يحوّلون الأحجار إلى آلهة يعبدونها...
وعانى النبيّ (ص) ما عاناه من تعنّت المشركين، وامتدَّت حياته حتى ركّز قواعد
الرسالة الَّتي حاول المشركون أن يمنعوا امتدادها في العالم، ولكنَّ الله تعالى
أراد لهذه الرسالة أن تمتدَّ إلى كل زمان ومكان، لأنَّ الرسالة الإسلاميَّة التي
جعلها الله خاتمة الرسالات، كما جعل رسولها خاتم الأنبياء، هي رسالة للحياة كلّها.
وانطلق النبيّ (ص) في تأدية رسالته، وتعرّض لما تعرّض له من قِبَل المشركين الذين
أخرجوه من مكَّة، في مؤامرة تحدَّث القرآن الكريم عنها.
وتحدّثنا كتب السيرة، أنَّ المشركين كانوا إذا ضاقوا بالنبيّ ذرعاً، فلم يستطيعوا
أن يهزموا موقفه، أو يُسقطوا حجَّته، أو يقابلوا دعوته، تمنّوا له الموت، لتنتهي
قصة الصّراع بموته، حتى يخلو لهم الجوّ بعبادة الأصنام. ولكنَّ القرآن أكَّد له أن
لا فائدة لهم من تمنّي موتك، فقد يموتون قبلك، وقد يموتون معك، فكلّ نفس ذائقة
الموت: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ
أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}[الأنبياء: 34].
ولأنَّ النبيَّ (ص) بشر كبقيَّة البشر، يولد ويموت ويُبعث، أنزل الله تعالى عليه:
{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}، هذا
هو القانون الحتمي الَّذي فرضه الله على النَّاس، ولا فرق فيه بين الأنبياء وغيرهم،
فلا خلود لأحد في هذه الحياة حتى لو كان نبيّاً {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ
رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ}[الزّمر: 30- 31]، حيث يقف الجميع يوم الحساب
أمام الله...
استعداده (ص) للقاء الله
تنقل لنا كتب سيرته (ص) مقدِّمات استعداده للقاء الله، فيروي أبو مويهبة مولى رسول
الله، أنّه (ص) قال: "إنِّي قد أُمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع، فانطلق معي -
وهذا توجيه نبويّ إلى ضرورة زيارة القبور، وهي بمثابة الهديَّة التي نقدّمها إلى
أمواتنا - فخرجْتُ معه، فاستغفرَ لهم طويلاً، ثم قال: ليهنئكم ما أصبحتم فيه، أقبلت
الفتن كقِطَع اللَّيل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شرٌّ من الأولى" .
ونقرأ في سيرة النبيّ (ص)، أنه خرج إلى المسجد معصوب الرأس، معتمداً على أمير
المؤمنين بيمنى يديه، وعلى الفضل بن العباس باليد الأخرى، حتى صعد المنبر فجلس عليه،
ثم قال: "معاشر النَّاس، قد حان منِّي خفوقٌ من بين أظهركم، فمن كان له عندي عِدةٌ
فليأتني أُعطه إيَّاها، ومن كان له عليَّ دَين فليخبرني به. معاشر النَّاس، ليس بين
الله وبين أحدٍ شيء يعطيه به خيراً أو يصرف عنه به شرّاً إلا العمل - الكلّ خلق
الله، سواء الأنبياء والأولياء والأوصياء والنَّاس جميعاً، فليس بين الله وبين أحد
قرابة - أيُّها النَّاس، لا يدَّعِ مدَّع، ولا يتمنَّ متمنٍّ - كالذين يقولون
إنَّنا نحن من شيعة عليّ وإنَّ الله لا يعاقبنا، ولكنَّ الله تعالى يقول:
{لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ
الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللهِ
وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}[النّساء: 123] - والَّذي بعثني بالحقِّ نبيّاً،
لا ينجي إلَّا عمل مع رحمة، ولو عصيت لهويت. اللَّهمَّ هل بلَّغت؟" .
ويروي ابن سعد عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ (ص) أنه قال: "إنِّي أوشك أن أُدعى
فأُجيب، إنِّي تاركٌ فيكم الثّقلين؛ كتاب الله وعترتي، كتاب الله حبلٌ ممدود إلى
السماء من الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنّ اللّطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى
يردا عليَّ الحوض، فانظروا ماذا تخلفونني فيهما" ...
وروى ابن سعد في طبقاته، أنَّ النبيَّ (ص) توفي في حجر عليّ بن أبي طالب (ع)، وعن
ابن عباس: "توفّي (ص) وإنَّه لمستند إلى صدر عليّ، وهو الَّذي غسّله" ، والقوم
مجتمعون في مكان آخر، لم يتوقَّفوا عند هذه المصيبة الكبيرة التي انقطع فيها الوحي
من السَّماء.
إننا عندما نستقبل ذكرى وفاة النبيّ (ص)، فإنَّ علينا أن نعرف أنَّ النبيّ (ص) قد
ترك الإسلام والقرآن وعترته من أهل البيت أمانةً عندنا، وعلينا أن نحفظ أمانته في
الإسلام والقرآن وأهل البيت (ع)، حتى عندما نقدم عليه، نقول له: يا رسول الله، لقد
أدَّينا الأمانة.
وصلَّى الله على محمَّد رسوله يوم وُلد، ويوم انتقل إلى رحاب ربِّه، ويوم يُبعث حياً.
* من خطبة جمعة لسماحته، بتاريخ: 25 صفر 1430 ه/ الموافق: 20 شباط 2009م.
***
بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 21، ص 409.
بحار الأنوار، ج 22، ص 467.
بحار الأنوار، ج 23، ص 108.
تذكرة الخواص، سبط بن الجوزي، ج 1، ص 307.