رغم كلِّ المحاولات الرّامية لإسقاط عزيمة النّبيّ (ص) وصدّه عن الدَّعوة إلى الله تعالى، فإنَّه لم يَهِنْ ولم تهتزّ مواقفه.
والقرآن الكريم يُظهِر في كثيرٍ من آياته صلابة النبيّ (ص) في دعوته ومواجهته للمشركين، فيقولُ سبحانه على لسانه (ص): {قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ}[الزّمر: 64].
هذا هو خطاب النبيّ (ص) بأمر الله للّذين كانوا يفكِّرون ويعملون على أن يتوقَّف النّبيّ (ص) عن دعوته بإغراءاتهم وتخويفاتهم، ليترك عبادة ربِّه، ولينضمَّ إليهم في عبادتهم للأصنام والأوثان. وهذا الخطاب القرآنيّ موجَّهٌ إلى كلِّ مؤمنٍ موحِّد يتعرَّض للإغراء من جهة، وللإرهاب من جهةٍ أخرى، ليقدِّم تنازلاتِه، ولينفتح على غير الله من بشر أو حجر. فالنبيّ أو الدّاعية ينظر إلى النّاس الّذين يَعرضون إغراءاتهم ويعلنون تخويفاتهم، نظرتَه إلى النَّاس الخاسرين الجاهلين الّذين لا يعرفون الحقيقة، وكيف يمكن ألَّا يجهلَ الحقيقة مَنْ هو جاهلٌ بالله الّذي هو سرُّ الوجودِ كلِّه، لأنّه لا وجود إلّا من خلال وجوده؟! ولذلك، فالإنسان المؤمن الواعي والعارف، يرى في كلِّ إنسانٍ بعيد من الله، صورة الإنسان الجاهل الخاسر، وعلى هذا {قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ}. وقد عشتُ المعرفة بالله، فكيف يمكن للعارف أن يخضَع للجاهل فيما يريدُه منه؟
ثمَّ يتدخَّلُ الأسلوب القرآنيّ في حديث الله لرسوله ليؤكِّد التوحيد، وبأنّه هو وحي الله لكلّ الرّسل، وأنَّ الله تعالى لا يقبل الشِّرك من أيِّ إنسان، ولا يقبله، من باب فرض المستحيل ـــ حتّى من الرّسل الذين إنْ أشركوا ـــ وهم لن يُشركوا ـــ فسيسقط عملهم. ولذا، قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الزمر: 65]. فإذا كان الرّسل بهذه المثابة، فكيف بالآخرين؟ فليس بين الله وبين أحد من خلقه قرابة. فالنّاس يَقْرُبون إليه سبحانه بأعمالهم، فرسول الله (ص) والأنبياء جميعاً والأئمّة (ع) إنّما قَرُبُوا إلى الله من خلال سيرهم في خطّه، ولأنّهم {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}[الأنبياء: 26 ـــ 27]. يسيرون مع قوله، ويتحرّكون من خلال أمره في أعمالهم كلِّها.
{بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ}[الزمر: 66] الّذين يشكرون الله بالعبادة، فعبادةُ الإنسان لله في صلاته وصومه وحجّه وخُمُسه وزكاته ودعائه، هي أسلوبٌ من أساليب الشّكر. وإنَّ وقوف الإنسان أمام النِّعَم التي أفاضها الله عليه، تقتضي منه أن يخضع لله ويعبدَه ويُخلِص له.
*من كتاب "من عرفان القرآن".