الترتيب حسب:
Relevance
Relevance
Date

المعاييرُ الّتي يتمُّ بها تمامُ العقلِ

العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله

تحدّث الإمام الرضا (ع) فيما روي عنه من عنوان مهمّ جداً، وهو كيف نحكم على الإنسان بأنّه تامّ العقل بما يتمّ به عقل الإنسان.
والإمام (ع) يتحدَّث، حسب هذه الرّواية، في "العقل العمليّ" الَّذي إذا انفتح الإنسانُ عليه وانطلق به، كان دليلاً على أنَّ وعيه للحياة وللإنسان وللقيم وللواقع عقلانيّ وليس وعياً عاطفيّاً، قال: "لا يتمُّ عقلُ امرئٍ مسلمٍ حتَّى تكون فيه عشر خصال: الخيرُ منه مأمول"،  أي عندما يعيش مع النَّاس، وهو يملك العناصر الَّتي يمكن لها أن تعطي الخير للنَّاس، سواء كان الخير ما يملكه من عنصر علم أو خبرة أو عنصر قوّة أو مال أو جاه أو ما إلى ذلك، فإذا تطلّع الناس إليه، فإنّهم يأملون خيره، لأنّه ينفتح على النَّاس من موقع الخير.
"والشرّ منه مأمون"، فإذا عاش مع الناس، فإنّ الناس يأمنون شرّه، لأنّه لا يفكِّر في الشرّ ضدّ الناس، بل يعمل على إبعادهم عن شرّ نفسه، ويحميهم من نفسه، كما يعمل على إبعادهم عن شرّ غيره...
والخصلة الأخرى هي "يستكثر قليل الخير من غيره، ويستقلُّ كثيرَ الخير من نفسه"، فإذا فعل النَّاس الخير، فإنّه يعمل على أن يشجّعهم على الخير، ولذلك فإنّه يتكلّم معهم على أساس تقدير ما قاموا به، حتّى لو كان الخير الصّادرُ عنهم قليلاً، لأنّه عندما يستكثر ذلك بما يوحي إليهم بالقيمة في أعمالهم، فإنّه يعمل على أن يشجّعهم في ذلك. أمّا بالنسبة إلى نفسه، فهو الطَّمُوحُ ليبلغ القمّة في الخير، والطَّمُوحُ إلى أن يضاعف كلّ طاقاته من أجل أن يكسب خيراً هنا وخيراً هناك، فإذا وصل إلى مرحلة من الخير، وكانت مرحلة أعلى منها، فإنّه يشعر بأنّه لم يقم بما يريد، لأنّ الإنسان الذي يطلب الكمال، لا يقبل بأيّ درجة من درجات النقص، فإذا بقيت ثمّة درجة، فإنّه يعمل على أن يصعد إليها نحو القمّة...
"لا يسأم من طلب الحوائج إليه"، ذلك أنَّه يعتبر أنّ طاقته فيما أعطاه الله من طاقة ليست ملكه، بل هي أمانةُ الله عندهُ، فعلمه أمانة الله عنده، فمهما طلب النَّاس من علمه، فإنّه لا يملّ من سؤالهم، ولا يملُّ من عطائه لهم، وهكذا يرى أنَّ ماله أمانة الله عنده، فمهما طلب الناس من ماله وممّا يملك أن يعطيهم، فإنّه لا يسأم من تلبية ذلك، وهكذا بالنسبة إلى قوّته وبالنسبة إلى جاهه... فهو لا يسأم من طلب الحوائج إليه، بل يرتاح لذلك، لأنّه يرى أنّ الله سبحانه وتعالى يعطيه أضعاف ذلك، "ولا يملّ من طلب العلم طولَ دهره"، فهو الطالب للعلم أبداً ما دام عقله معه، وما دامت قدراته الفكريَّة معه، لأنّ العلم هو نموُّ إنسانيَّته، وهو معرفته بربّه، وهو الطاقة التي يمكن أن يفجِّرها فكراً واكتشافاً وإبداعاً وعطاءً...
وخصلته الأخرى هي: "الفقر في الله أحبُّ إليهِ من الغنى"، فلو دارَ الأمر بين أن يكون غنياً مع الشيطان ومع أولياء الشيطان، يعطونه المال كلّه، ولكنه عندما يسير في خطّ الله، فإنّه قد يعيش فقراً هناك، وقد يعيش حاجة هنا، فإذا ما وقف بين الله تعالى وبين الشيطان بكلّ ما يمثّله خطُّ الله من خطّ النبوات والرسالات والأولياء، وما يمثّله خطّ الشيطان من الكفر والضلال، فإنّه يفضّلُ السير في خطّ الله، حتى لو كان الفقرُ هناك، ويفضِّل أن يقف ضدّ خطّ الشيطان، حتى لو كان الغنى معه، ليحصل على محبّة الله ورضوانه ورحمته في ذلك، وما دام الله تعالى هو الذي يملك رزقه كما يملك حياته، فإنَّ عليه أن لا يسمع للشيطان عندما يعدهُ الفقر بل يفكِّر في أنّه إذا افتقر اليوم، فإنّ الله لا بدَّ له من أن يغنيه غداً...
والخصلة الأخرى هي "والذلّ في الله أحبّ إليه من العزّ مع عدوّه"، فربّما تنطلق مع أعداء الله ليعطوك موقعاً متقدّماً من مواقع الجاه في الحياة، ولكنَّك عندما تبتعد عنهم وتنفتح على الله، فقد تكون إنساناً عادياً لا تملك ما يملكون، لكنّ المؤمن العاقل يفضّل هذا الذلّ الشكليّ، وإلَّا فهو ليس بالذليل، بل هو عزيز في نفسه، والله تعالى يقول: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للهِ جَمِيعاً}[النساء: 138 – 139]، فعندما ينظر الناس إلى مسألة الذلّ والعزّ، فمن الجانب الشكلي، أمّا المؤمن، فينظر إلى قضية العزّ والذلّ على أنّها شيء في العقل وفي القلب وفي الإحساس والشعور...
ومن خصاله أيضاً: "والخمول أشهى إليه من الشهرة"، فإذا دار الأمرُ بين شهرة ترضي ذاته، بحيث يشعر بأنّها هي التي تكبّره، وهي التي تعظّمه، وهي التي ترفع مقامه، لأنَّ نفسه فارغة من القيمة، بحيث يستعير من الآخرين قيمة نفسه في موقع اللاشيء وفي موقع اللااحترام، إنّ إنساناً كهذا يستعير ثقته بنفسه من الآخرين، فيطلب الشهرة ليرتفع، لأنّه يعتبر أنّ ارتفاعه بمقدار ما يصفِّقُ الناس لهُ، وبمقدار ما يتحرّك النَّاس خلفه، لأنّه لا يجد في نفسه أيّ معنى من الغنى ولا الامتلاء، فهذا هو الإنسان الذي يتوقّف عند الشّهرة من موقع الإحساس والانشغال والاهتمام الكبير. أمَّا المؤمن، فإنّه يفضِّل الخمول بأن يبقى إنساناً عادياً لا يبيع نفسه ولا يبيع موقفه، لأنّه يشعر بالغنى من داخل نفسه، ولا يشعر بأنَّ مدح الناس وإقبالهم عليه يمكن أن يرفع من مقامه...
وليس معنى ذلك أنَّ الخمول قيمة إيجابيَّة في المطلق، وأنّ الشهرة قيمة سلبيَّة مطلقة، بل معناه أنّ الشهرة بحسب طبيعتها ليست هي القيمة، وأنّ الخمول بحسب طبيعته ليس ضدّ القيمة، فالقيمة هي في نفسك عندما تكون ممتلئ العقل بالعلم النافع، وممتلئ القلب بالعواطف الطيّبة، وممتلئ الحركة بنشاطك المسؤول، وعندها فأنت الكبير حتى لو كنت خاملاً لا يذكرك أحد، وإذا كنت فارغاً من ذلك كلّه، فأنتَ الصَّغير حتى لو هتف كلّ النَّاس باسمك.
ثم قال (ع): العاشرة وما العاشرة، قيل له: ما هي؟ قال (ع): "لا يرى أحداً إلَّا قال هو خيرٌ منّي وأتقى"، فهو لا يرى أنّه خير من الناس، "ورجلٌ شرٌّ منه وأدنى"، فإذا لقي الذي هو شرٌّ منه وأدنى، قال: "خيرُ هذا باطنٌ وهو خيرٌ له، وخيري ظاهر وهو شرٌّ لي"، فقد يكون هذا الشخص بحسب ظاهره شريراً، ولكن قد يكون عنده باطن خيرٌ من باطني، وقد أكون بحسب ظاهري خيّراً، ولكن يمكن أن يكون باطني شرّيراً، فعليَّ أن لا أنظر في مجال المقارنة بين نفسي وبين الآخر من خلال ما هو ظاهر منّي وما هو ظاهر من الآخر، لأنّه يمكن أن يكون ظاهري مشتملاً على باطن سيّىء، ويمكن أن يكون ظاهر الآخر مشتملاً على باطن خيّر...
ويمضي الإمام الرضا (ع) فيقول: "وإذا رأى الَّذي هو خيرٌ منه تواضع له ليلحق به، فإذا فعل ذلك، فقد علا مجدُه، وطابَ خيرُه، وحسُن ذكره، وساد أهلَ زمانه"  بهذه الصِّفات.
* من كتاب "النَّدوة"، ج 3.

مواضيع متعلّقة

تعليقات القرّاء

ملاحظة: التعليقات المنشورة لا تعبّر عن رأي الموقع وإنّما تعبر عن رأي أصحابها

أكتب تعليقك

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو الأشخاص أو المقدسات. الإبتعاد عن التحريض الطائفي و المذهبي.

تويتر يحذف حساب عهد التميمي تويتر يحذف حساب عهد التميمي الاحتلال يعتقل 3 فتية من الخليل الشيخ عكرمة صبري: من يفرط في القدس يفرط في مكة والمدينة شيخ الأزهر يؤكد أهمية تدريس القضية الفلسطينية في مقرر دراسي حماس تدين جريمة كنيسة مارمينا في القاهرة الهيئة الإسلامية المسيحية: الاعتداء على كنيسة حلوان إرهاب يجب اجتثاثه الحكم على محمد مرسي بالحبس 3 سنوات بتهمة إهانة القضاء الحكم على محمد مرسي بالحبس 3 سنوات بتهمة إهانة القضاء منظمات أممية تدعو لوقف الحرب في اليمن داعش تتبنى هجوم الأربعاء على متجر بسان بطرسبورغ الميادين: مسيرات حاشدة في مدن إيرانية رفضاً للتدخل الخارجي بالبلاد بنغلاديش تستعد لترحيل 100 ألف لاجئ من الروهينغا إلى ميانمار فى يناير/ كانون الثاني وزير ألماني محلي يدعو للسماح للمدرسات المسلمات بارتداء الحجاب صحيفة أمريكية: الولايات المتحدة تفكر فى قطع مساعدات مالية عن باكستان مقتل 3 عمال في إطلاق نار في ولاية تكساس الأميركية بوتين يوقع قانوناً لإنشاء مختبر وطني لمكافحة المنشطات مسلح يقتل عمدة مدينة بيتاتلان المكسيكية علماء يبتكرون لقاحاً ضد الإدمان على المخدرات منظمة الصحة العالمية: السكري سابع مسببات الوفاة في 2030 دراسة: تلوث الهواء يقتل 4.6 مليون شخص كل عام المشي 3 كيلومترات يومياً يحد من تدهور دماغ كبار السن ضعف العلاقات بين المهاجرين ندوة في بعلبكّ: دور الحوار في بناء المواطنة الفاعلة شهرُ رجبَ شهرُ الرَّحمةِ وذكرِ الله لمقاربةٍ لبنانيَّةٍ وحوارٍ داخليٍّ قبل انتظار مساعدة الآخرين السَّبت أوَّل شهر رجب 1442هـ مناقشة رسالة ماجستير حول ديوان شعريّ للمرجع فضل الله (رض) الحجاب واجبٌ وليس تقليدًا اجتماعيًّا في عصر الإعلام والتّأثير.. مسؤوليَّة تقصّي الحقيقة قصّة النبيّ يونس (ع) المليئة بالعبر المرض بلاءٌ وعذاب أم خيرٌ وثواب؟! فضل الله في درس التفسير الأسبوعي
يسمح إستخدام المواضيع من الموقع شرط ذكر المصدر