في مسألة تولّي المرأة للسلطة، الواقع أنَّ المنشأ في مسألة تولّي المرأة للسلطة،
هو حديث يرويه البخاري وجماعة، وهو ليس مرويّاً في كتب الإماميَّة من الشيعة، وهو
أنّه عندما سمع رسول الله (ص) أنَّ قوماً من فارس ملَّكوا عليهم امرأة، قال: "لن
يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة" ، وليس عندنا حديث آخر غير هذا الحديث، وهي كلمة قيلت
في ظروفها الخاصَّة، وانطلق الفقهاء من هذا الحديث ليؤسِّسوا أنَّ المرأة لا تصلح
لتولّي السلطة.
ولكنَّ هناك فقهاء آخرين بدؤوا يسجَّلون بعض التحفظات عن هذا الموضوع؛ أوَّلاً: أن
هذه المسألة تحركت في ظروف لا نعرف طبيعتها، ولا سيَّما أنَّ الحكم كان في الظروف
الماضية يختلف عن الحكم في الظروف الحاضرة، فالحاكم في الماضي كان الحاكم بأمره،
وكان الناس يتحركون معه على أساس أنَّه يملك الأمر كلّه. أمَّا الآن، فالحاكم لا
يملك الأمر كلَّه، فهناك قانون يخضع له الحاكم، وهناك أجهزة تحاسب الحاكم وقد
تحاكمه، فقد يُقال إنَّه إذا كان الحديث النبوي صحيحاً، وكان مضمونه تامّاً، ولم
يُناقش في مدلوله، فإنَّه كان يتحدَّث عن طبيعة الحكم هناك، أمَّا طبيعة الحكم الآن،
فهي تختلف عن السَّابق...
إنَّ هؤلاء إذا كانوا قد فهموا من الحديث: "لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة"
(1)، أنَّ المرأة لا تملك العقل الذي تدير به الملك، فإننا نجد أنَّ القرآن الكريم
قد قدّم لنا امرأة أكثر هدوءاً في العقل، وأكثر قوَّة في التخطيط، وأكثر عقلانيةً
من الرّجال، وهي ملكة سبأ، عندما جاءها كتاب سليمان: {قَالَتْ
يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ
تَشْهَدُونِ}، جاءها وهي الملكة الَّتي لا تحتاج إلى أيّ مشورة، ولم يكن
نظامهم يفرض هذا الأمر، وهذا ما نفهمه من سياق الآيات الآتية:
{ قَالَتْ يَا أَيُّهَا
الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ
تَشْهَدُونِ}(النَّمل: 32)، حتى تحضرون، وحتى ترون الرأي في ذلك، وأرغب في
أن نتشاور في الرأي لأخذ الموقف الأسلم والأصحّ. طلبت منهم أن يعطوها الرأي، فماذا
أعطوها؟ أعطوها عضلاتهم. أرادتهم أن يمنحوها عضلاتهم الفكريَّة، فقدَّموا لها
عضلاتهم الجسديَّة. {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ
وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ}(النَّمل: 33)، إنهم عاشوا
شخصية الشعب الذي لا يريد أن يعطي رأياً، لأنَّه لا يشعر بأن له الحقّ في الرأي،
ولذلك أوكلوا الأمر إليها. ثم قالت بعد ذلك: {قَالَتْ إِنَّ
الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا
أَذِلَّةً وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ
فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}(النَّمل: 34 - 35).
إنها تحاول أن تستكشف شخصية الرجل الذي أرسل إليها هذه الرسالة؛ هل هو ملك جاء
ليُفسد في الأرض، أم هو نبيّ جاء ليدعو إلى الحق؟ ثم بقيت على عنفوانها الشخصي، حتى
بعد أن جاءت إلى سليمان وأسلمت على يديه، قالت {وَأَسْلَمْتُ
مَعَ سُلَيْمَانَ} لا خلفه، بقيت تعيش شخصيَّتها وعقليتها وقناعتها، وقالت:
{وَأَسْلَمْتُ
مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(النمل: 44).
عندما يقدِّم القرآن لنا هذه الصّورة، فكيف يمكن أن تكون الفكرة الإسلاميَّة على
هدى هذا الحديث؛ هل هي فكرة تعتبر المرأة بحسب طبيعتها لا تملك أن تحكم أو أن تتحرك
في الواقع المسؤول من خلال عقلها؟ إنَّنا نتحفّظ عن هذه الفتوى التي يُفتي بها
هؤلاء الفقهاء، لأنَّنا نرى أنَّ الحديث لا دلالة له على ذلك، وأنَّ القرآن يوحي
إلينا بغير ذلك.
وأمّا مسألة تولّي القضاء، فليس هناك إلَّا حديث واحد: "ولا تولَّى المرأة القضاء"،
وهو حديث ضعيف. ويحاول البعض أن يستهدي بمسألة وجود شهادة امرأتين في مقابل شهادة
رجل، وهذا لا يدلّ على ذلك، لأنَّ هذا منطلق من الخصوصيَّة التي ذكرت.
ولذلك أيضاً، بدأ بعض العلماء في عمليّة إيحائيّة، ومنهم السيِّد الأردبيلي في
كتابه "فقه القضاء"، حيث يفسح في المجال لمناقشة هذه الفكرة، من خلال إمكانيَّة
المناقشة في الأدلَّة الاجتهاديَّة التي قدَّمها الفقهاء حول الموضوع من الكتاب
والسنَّة والإجماع، لولا اقتضاء الأصل العملي عدمَ شرعيَّة قضائها في غياب إطلاقٍ
أو عمومٍ يدلّ على ذلك من حيث الشمول للمرأة.
وبذلك، فإن الطريق الاجتهادي ليس مسدوداً هنا، وليس مسدوداً هناك، لأنَّ الأحاديث
التي وردت في هذا المجال هي أحاديث ضعيفة، ويمكن للإنسان أن يناقش في دلالة بعضها،
وأن يلاحظ أن قضيَّة القضاء هي قضيَّة علم وتقوى؛ فإذا تجمّعت في المرأة، فيمكن لها
أن تأخذ بهذا، مع بعض التحفظات التي يمكن أن تُجعل في هذا المجال أو ذاك.. المهم
ليست المسألة الآن مسألة فتوى، ولكنَّنا نقول: إنَّ المسألة ليست من المسائل التي
لا مجال للمناقشة فيها، فيمكن أن يتحرك الاجتهاد فيها بطريقة إيجابيَّة بشكل وبآخر.
هذا هو الرأي لدى علماء المسلمين الشيعة. أما علماء المسلمين السنَّة، فقد ذهب
الجمهور منهم، وعليه أحمد ومالك والشافعي، وقالوا: لا يصحّ قضاء المرأة. وقال أبو
حنيفة: يجوز أن تكون المرأة قاضياً في الأموال تشبيهاً بجواز شهادتها في الأموال،
وقال الطبري: يجوز أن تكون المرأة حاكماً على الإطلاق في كلّ شيء، استناداً إلى أنَّ
الأصل هو أنَّ كلَّ من يتأتَّى منه الفصل بين النَّاس، فحكمه جائز، إلَّا ما خصَّصه
الإجماع من الإمامة الكبرى.
وخلاصة الفكرة، أنَّ مسألة تولّي المرأة القضاء - في الفقه الإسلامي - ليست من
القضايا المحسومة سلباً في صعيدَي الاستدلال والفتوى، ما يجعل الباب مفتوحاً -
فقهياً - للرأي الآخر.
* من كتاب "قراءة جديدة لفقه المرأة الحقوقي".
الهوامش :
(1)صحيح البخاري، الحديث 4425.