بدأت الهجرة منذ الإسلام الأوَّل، فهناك هجرة المسلمين إلى الحبشة على
خلفيَّة ما تعرَّض له المسلمون الأوائل في بداية الدَّعوة، من الاضطهاد والأذى
والحصار والعذاب الَّذي أسقط بعضهم شهداء، كياسر وسميَّة، وضجّوا إلى النبيّ (ص) -
كما تقول كتب السِّيرة - كأنهم خافوا أن يُفتَنوا في دينهم، وأن يبلغ العذاب الَّذي
تمارسه قريش ضدَّهم المستوى أو الدَّرجة الَّتي لا يملكون فيها الثَّبات، لأنَّ
طاقة الإنسان محدودة، فهاجروا إلى الحبشة التي أشار النبيّ (ص) عليهم بالهجرة إليها...
وأرسلت قريش خلفهم بعض الَّذين يكيدون لهم عند ملك الحبشة، وكان الحوار التاريخي
بينهم وبين ملك الحبشة، وانتصر المسلمون هناك، لأنَّ الرَّجل كان يملك روحيَّة
منفتحة على تعاليم السيِّد المسيح (ع)، والتي رأى أنها تلتقي مع تعاليم النبيّ (ص)،
عندما قرأ عليه جعفر بن أبي طالب (رض) من القرآن حديثه عن عيسى (ع) ومريم (ع).
ورجعوا من الهجرة الأولى، كما تفيد بعض المصادر، وأوذوا أذًى شديدا،ً وعادوا إلى
الهجرة الثَّانية التي انتهت بهم إلى المدينة بعد غياب طويل، حيث انضمّوا إلى
المسلمين.
وكانت الهجرة الثانية هجرة النبيّ (ص)، وقد هاجر المسلمون معه إلى المدينة، بعد أن
هيَّأها لتكون قاعدةً للدَّعوة الإسلاميَّة أو الحكومة الإسلاميَّة الجديدة، فكانت
ظروف الهجرة الثانية متحرّكة بين خطَّين؛ الخطّ الأوَّل هو خطّ الضّغط الَّذي كان
يمارَس على المسلمين، حتى كانوا يقولون: {رَبَّنَا
أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِه ِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا}[النساء: 75]،
وفي الخطر الَّذي كان يواجهه الرَّسول (ص)، والذي تحدَّث عنه القرآن الكريم:
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ
يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ
الْمَاكِرِينَ}[لأنفال: 30]، حيث كانوا يتآمرون عليه، وتراوحت
الاقتراحات بين الحبس، والإخراج من مكَّة، وإرساله إلى البيداء، والقتل.
وكان الخطُّ الثَّاني للهجرة يتمثَّل في الانتقال بالدَّعوة الإسلاميَّة الوليدة من
موقع الضّعف إلى موقع القوَّة، حيث كانت القوَّة المضادَّة تملك من الإمكانيَّات
المادية والعسكرية والبشرية والسياسية - إذا صحَّ التعبير بذلك عن تلك المرحلة - ما
لا يملك المسلمون أن يواجهوه، ولذلك كان التفكير في إقامة دولة إسلاميَّة في مكَّة
تفكيراً غير واقعيّ، ولهذا، هيّأ النبيّ (ص) من خلال اتصالاته بالوفود التي كانت
تأتي من هنا وهناك، القاعدة الأولى لامتداد الدعوة الإسلاميَّة في يثرب، فأخذ
البيعة الأولى والثانية، وهكذا انطلق النبيّ (ص) في هجرته، بعد أن دفع الكثير من
المسلمين للهجرة إليها، ثم انطلق النبيّ (ص) في هجرته بعد أن نضجت كلُّ الظروف
لإقامة أوَّل مركز إسلاميّ حركيّ فاعل يعمل على صناعة القوَّة في هذه المنطقة.
*من كتاب "النَّدوة"، ج 10*