يعطينا القرآن صورةً عن موقف العاصين والمتمرّدين والضّالّين يوم القيامة، ليحذّرنا من أن ننساق في الدّنيا وراءَ مفاهيمهم أو نكون مثلَهم، كي لا نقف موقفهم، ونعيشَ الحِيرةَ الّتي يتحيَّرونها، والحسرةَ التي يتحسَّرونها.
وما هي هذه الصّورة؟!
{حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ}[المؤمنون: 99]، ورأى ما بعد الموت، من عذاب القبر وحسابه، ومن الحشر وأهواله، ورأى الموقفَ العظيم يوم القيامة، وأدرك أنَّ ما سمعه في حياته من الأنبياء وأوصيائهم وأتباعهم، حقٌّ وصواب، وأحسَّ بأنَّ العذاب يحيط به من كلِّ جانب، وأنَّه صفر اليدين، ليس هناك أيُّ عملٍ صالحٍ في يديه، وكتابُه صفحةٌ سوداء مليئةٌ بالمعاصي، حيث {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ}[الكهف: 49]. في هذا الموقف الصعب، ماذا يقول؟ {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ}[المؤمنون: 99 ـــ 100] اسمحوا لي بفرصةٍ جديدة، فلقد أعطيتني، يا ربّ، ستّين سنة أو سبعين، ارجعني وانظرْ ماذا سأفعل؟ يقول ذلك وهو يرى الخسارة أمام عينيه.
{كَلَّ} لا مجالَ لذلك، هذا هو الجواب، {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَ} لا قيمة لكلامه ولا اعتبار {وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[المؤمنون: 100]. منطقة (برزخ) بين الدّنيا والآخرة، وهناك روايات كثيرة تفيد بأنَّ هناك جنَّةً في البرزخ هي مقدِّمة لجنّة الآخرة، وأنَّ هناك ناراً مقدِّمةٌ لنار الآخرة.
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ}[المؤمنون: 101]. في الدّنيا، كلُّ إنسانٍ يحمل نَسَباً معيّناً، هذا يقول أنا ابن فلان، وذاك يقول أنا ابن فلان، أمّا في الآخرة، فإنَّ المسألة تنتهي، تنتهي علاقات الدّنيا النَسَبِيّة، وتبقى علاقة الإيمان والتّقوى {إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}[الحجر: 47] نَسَبٌ واحدٌ يبقى، نَسَبُ الأخوّة الإيمانيّة..
وإنّنا نفهم من الآية السابقة، أنَّ العلاقات العائليّة إذا هدفت إلى تحطيم مصير الإنسان المؤمن، فإنَّه لا يخضع لمعايير النّسَب، لأنَّ المسألة مسألةُ طاعةِ الله وحسابِ الآخرة، وإنَّ علاقته بأهله في الدّنيا تظلُّ متحرِّكةً في خطِّ الرّعاية والإحسان فحسب، حتّى إذا أراد أهلُه أن يَحْرِفوه عن طاعة الله، ترك صلتَه بهم وأبقى على صلته بالله سبحانه. وفي ذلك اليوم {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ}[المؤمنون: 102ـــ 104]. ويأتي المؤمنون بأعمالهم الصّالحة لينالوا ثوابَ ما عملوا، والمجرمون الّذين خسروا أنفسهم إلى جهنَّم يدخلون مُسوَدَّةً وجوهُهُم خاسئين.
ويخاطبهم اللهُ مذكِّراً لهم بتاريخهم في الدُّنيا {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}[المؤمنون: 105ـــ 107] جَرِّبْنا يا ربّ مرّة ثانية، ونعدُك بألّا نعود إلى ما كنّا عليه. ولكنَّ الفرصة فاتت، والمُهلة انقضت {قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}[المؤمنون: 108 ـــ 109] وكان فريقٌ من عبادي يتعبَّدون ويخشعون لي ويدعونني ويبتهلون إليَّ، وكنتم عندما تنظرون إليهم تستهزئون منهم {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ}[المؤمنون: 110]. وليس هؤلاء يسخرون من المؤمنين وحسب، بل أيضاً مَن اتّخذوا صفة الإيمان وتزيّوا بِزَيِّه يسخرون أيضاً منهم، وخصوصاً إذا ما رأوا الرّساليِّين يدافعون عن الإسلام وقضاياه، ويعيشون الحماس الواعي لمشاكل المسلمين والتحدّيات التي تواجههم، فإنّهم يضحكون منهم، لأنَّهم مثلاً لا يتحرَّكون في حياتهم العامّة أو الخاصّة إلّا بفتوى شرعيّة، فتدور الضّحكات والقهقهات والانتقادات.
وهنا نقول لهؤلاء: إنَّ شرف الإنسان المؤمن ألّا يسير في الحياة إلّا بفتوى صادرة عمّن يمكن أن يكون محلّ الثّقة بفتواه، ألاَ نقرأ في القرآن {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيم}[النّساء: 65]، وفي الحديث عن النّاس الذين "يُظلُّهم اللهُ تحتَ عرشه يومَ لا ظلَّ إلّا ظِلُّه: رَجُلٌ لا يُقَدِّم رِجْلاً ولا يؤخِّر أُخرى حتّى يَعْلَمَ أنَّ في ذلك لله رضى"(*). كثيرون هُمُ الّذين يسخرون من المؤمنين لالتزامهم، ويهزأون بطريقتهم في العمل، وينالون منهم بألسنتهم، هؤلاء لا يريدون إلّا تجميد الإسلامِ وحركتِه، وهذا ما لا يرضاه الله تعالى، لأنَّه سبحانه وعد هؤلاء المؤمنين بالفوز العظيم يوم القيامة على ما عملوه من خير في الدُّنيا {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}[المؤمنون: 111]، لأنّهم أطاعوا الله وساروا في خطِّه.
* من كتاب "من عرفان القرآن".