{
إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ *
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ الله الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ
الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي
الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ
}[القصص: 76 – 77].
هذا كلام قوم قارون من العقلاء والمؤمنين، وكم من شخصيّات تشبه قارون تعرفونها
وترونها، عندما نعظ الواحد منهم بأن يحسب حساب الله، ليبتعد عن إفساد حياة النَّاس،
ويستعدّ لآخرته، ويُحسن إلى عباد الله، ويؤمن بأنَّ ما بين يديه مِنْ نِعَم ومال
وجاه وأولاد، هو من الله تعالى، فإنَّه يجيب كما أجاب قارون: {
قَالَ إِنَّمَا
أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي
}، ما اكتسبتُه من مال، وما كوَّنته من ثروة، وما
أنجبته من أولاد، وجمعت من أنصار ومؤيِّدين يهتفون باسمي، إنَّما كلُّ ذلك بخبرتي
ومهارتي وحيلتي وشطارتي وعلمي.
ويأتيه الجواب: {
أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ
القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن
ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ
}[القصص: 78]. مَنْ أنتَ حتّى تتضخّم شخصيَّتك؟ وهل تحسب
أنَّ شيئاً من المال سيُكسبك الخلود لتخرج من ولاية الله وتدخل في ولاية نفسك؟ اقرأ
التَّاريخ؛ أين آباؤك وأجدادك؟ أين الجبابرة والأكاسرة والأباطرة؟ أين مَنْ امتلكوا
الدنيا، أين كلُّ هؤلاء؟
{أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ} من
مئات وآلاف السنين {مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْع}، أين
عاد، وأين ثمود، وأين كلُّ العمالقة الَّذين تمرّدوا على الله وعصوه واستندوا إلى
قوّتهم وجبروتهم واستكبارهم؟
{وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} هم إلى النَّار فوراً، فكتاب
أعمالهم لا يتضمَّن أيّ نقطة بيضاء، فكلّ حروفه وصفحاته ملوّنةٌ بالسّواد.
ويرفض هذا المتجبّر أن يستمع إلى نداء العقل {
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي
زِينَتِهِ
}، خرج يشمخ بأنفه في جولةٍ استعراضيّة، لا يقيم وزناً واحتراماً لأحد،
يتباهى بخَدَمِه وحشمه وخيله ورجاله وكنوز الذَّهب والفضّة التي يمتلكها.
{قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَ} ويراه هؤلاء الَّذين يعيشون
للدّنيا ولا يفكّرون في الآخرة، وهو بكلّ مظاهر العظمة {
يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ
مَا أُوتِيَ قَارُونُ
}، لو أنّنا حصلنا على مثل ما حصل عليه من هذا المال والجاه
والعظمة {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[القصص: 79].
ويراه أيضاً الَّذين يملكون الوعي، ويعرفون حقائق الأشياء وعمقها، ولا يقتصرون على
ظواهرها، ويستمعون إلى مَنْ أعمت قلوبهم الزّخارفُ والزينة: {
وَقَالَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ
صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ
}[القصص: 80]. المال يأتي ويذهب،
ويجيء الموت، وبعد الموت جهنَّم.. فماذا يفعل المال لصاحبه؟ أمّا مَنْ آمن بالله،
وارتبط به وعمل صالحاً، فإنَّه ينال ثوابَ الله الَّذي لا يعادله أيُّ مال، لأنّه
استقام على خطِّ الله، راقبه ولم يراقب النَّاس، خاف منه سبحانه ولم يخف من غيره،
توكَّل عليه وحده ولم يتوكَّل على النَّاس، وأحبَّ الله ولم يحبّ أحداً في معصية
الله.
هذا ما واجههم به: افهموا القضايا، واحسبوا حساب النَّتائج، فلا ترتبطوا بظواهر
الأمور، ولكن ارتبطوا ببواطنها.
{وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} الَّذين يصبرون على طاعة الله ويصبرون عن
معصيته، هؤلاء يهذّبون شهواتهم وعواطفهم، ويضغطون على مواقع الانحراف في ذاتهم...
فالدّنيا تتطلَّب صبراً، والصَّبر هو القيمة الكبرى التي يقول عنها أمير المؤمنين
عليّ (ع): "واعلم أنَّ الصَّبر من الإيمان بمنزلة الرَّأس من الجسد، فكما لا خير في
جسدٍ لا رأس معه، لا خير في إيمانٍ لا صبر معه" .
وماذا بعدُ في حساب النّتائج؟ وما المصير الذي استحقّه قارون: {
فَخَسَفْنَا بِهِ
وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ
وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ
}[القصص: 81]. جاء وقت العذاب في الدّنيا قبل
الآخرة، لقد تكبَّر وتجبَّر وأفسد في الأرض، واغترّ بماله وكنوزه وزينته، فما كان
من الله تعالى، وكما جاء في بعض المرويّات، إلّا أنْ زلزل الأرض وخسفها به، فنزل
برجليه في الأرض، تطلَّع إلى ماله وأعوانه علَّهم ينقذونه، هبط إلى داخل الأرض أكثر
وضغطت على صدره، الرّجال والأعوان والكنوز كلّهم من حوله، ولا يستطيعون أن يحولوا
بينه وبين الموت، ثمّ طوته الأرض، وكأنَّ شيئاً لم يكن.
وكان يراه وهو ينال جزاءه من العذاب، أولئك الَّذين تمنّوا ثروةً كثروته، وجاهاً
كجاهه {
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ
وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ
لَوْلَا أَن مَّنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ
الْكَافِرُونَ
}[القصص: 82]، لا يأتي الرزق بشطارتنا وحِيَلِنا، الله هو الَّذي
يوزّع الأرزاق، كما يوزّع الأعمار والأدوار.
{وَيْكَأَنَّه} يمكن أن يعطينا الله، ولكن قد يكون ذلك نقمة علينا، وعندما يحرمنا،
فقد يكون الحرمان نعمةً لنا، لأنَّ القضايا بعواقبها ونتائجها.. فالحمد لله الَّذي
لم يعطنا كما أعطى قارون، لأنَّ نهايتنا ستكون كنهايته {
وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ
الْكَافِرُونَ
} المؤمنون هم المفلحون وحدهم، لأنّهم قدّروا العواقب وعرفوا
النَّتائج.
ويرسم الله الخطَّ {
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا
يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ
}[القصص: 83] الدّار الآخرة هي للّذين لا يريدون الاستعلاء والتكبّر
والتجبّر على الناس.. فإذا كنتم تريدونها، فابتعدوا عن أن تكونوا ممّن يريدون
الفساد في حياتهم وحياة النّاس، وسيروا في خطِّ الحسنة {
مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ
فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ
عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
}[القصص: 84].
*من كتاب "من عرفان القرآن".