العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله
01 شعبان 1444هـ
/ 21/02/2023
يقول الإمام عليّ (ع):
"قوام الدّنيا بأربعة" [وذكر منها]:
"وبغنيٍّ باذلٍ لمعروفِهِ... وبفقيرٍ لا يبيع آخرته بدنيا غيره".
والغنيّ قد يتمثَّل في شخصٍ يملك المال، وقد يتمثَّل في جهات تملك المال أو في دولة، وما إلى ذلك، أي كلّ من يملك المال الذي وضع الله سبحانه وتعالى فيه حقوقاً للآخرين، وهذه هي المسألة الشرعيَّة الإسلاميَّة، فنحن نقرأ قوله تعالى:
{الَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}. فالقضيَّة بالنّسبة إلى المال الخاصّ أو المال العامّ هي قضيّة الحقّ، وليست قضيَّة الإحسان والتفضّل. وعليه، فإنَّ السائل والمحروم - وهما نموذجان للإنسان الَّذي يعيش الحاجة - ليسا مورداً للتفضّل، وذلك لأنَّ السائل أو المحروم له حقّ في مالك. وقد ورد في بعض الأحاديث عن الأئمَّة من أهل البيت (ع):
"إنَّ الله فرض للفقراء في أموال الأغنياء ما يكفيهم، ولو علم أنَّه لا يكفيهم لزادهم". وفي رواية أخرى:
"إنَّ الله أشرك الفقراء في أموال الأغنياء"، بحيث إنَّه عندما تتعلَّق الزكاة بمالك، أو عندما يتعلَّق الخمس بمالك، فإنَّ حقَّ الزكاة وحقَّ الخمس ليسا لك، وإذا أخذته، فأنت سارق.
وهذا البرنامج يمثِّل "التَّكافل الاجتماعي"، يعني أنَّ المجتمع الإسلامي هو مجتمع متكافل، بحيث يكفل بعضه بعضاً في أمور إلزاميَّة، وهي الفرائض الإلزاميَّة، وفي أمور مستحبَّة غير إلزاميَّة في ما أراده الله تعالى للإنسان أن يبذله... وقد ورد في الأحاديث أنَّ النبيَّ (ص) ربط بين إيمان الشخص وبين رعايته للإنسان المحروم، ولا سيَّما إذا كان جاراً له:
"ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع"، بحيث إنَّه جعل مسألة الإيمان ليست مجرَّد مسألة تعيش في وجدانك الفكريّ، ولكنَّها مسألة تتَّصل بحركتك الفكريَّة.
[أمَّا الفقير الَّذي] "لا يبيع آخرته بدنيا غيره"، فلأنَّه يُدرك بالتزامه الدّيني القويّ ووعيه، النَّتائجَ السلبيَّة والإيجابيَّة في قضايا المصير الأخرويّ، فلا يسقط أمام حالة الفقر التي تصيبه، بل يتماسك ويتوازن ويخطِّط لحلِّ مشكلته بالطَّريقة الَّتي يحفظ فيها التزامه، ويحلّ مشكلته باليسير من الوسائل، ويصبر على ما لا يستطيعه، ويستفيد من النَّاس الطيِّبين الذين يبذلون المعروف للمحتاجين من خلال قيمة العطاء في التزاماتهم الدينيَّة الإنسانيَّة. فإذا "أمسك الغنيّ معروفه"، "باع الفقير آخرته بدنيا غيره" ، لأنَّ الفقير قد يضطرّ بفعل جوعه والحرمان الَّذي يعيشه، إلى أن يسقط أمام تأثير هذه الحاجات، وعلى هذا الأساس، قد يسقط فيتبع الحرام، ويسعى ليحصل على المال في ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى.
إنَّ الله سبحانه وتعالى يريد من الفقير أن يصبر ويصمد ويتماسك، وذلك بما كلّف به الغنيَّ من كفالة هذا الفقير. فإذا لم يكفل الغنيّ الفقير، فربما تشتدُّ الحاجة به، فيسقط تحت تأثير هذه الحاجة، فيبيع آخرته بدنياه، وبذلك يسقط توازن المجتمع. والإسلام يسعى إلى سدِّ الثغرات الّتي تحصل في المجتمع، ولكنَّنا إذا أبقينا الثغرات العلميَّة والثغرات الماليَّة والثغرات الاجتماعيَّة على حالها، فإنَّ هذه الثغرات سوف تشارك في تهديم المجتمع، ولذلك يسقط قوام الدنيا من خلال سقوط هذه الركائز التي ترتكز عليها الدنيا...
* من كتاب "النَّدوة"، ج 14.